هذه قصة حرق التسجيل العقاري سنة 1985
كتبتها سنة 1987 عندما كنت مقيما في مدينة سلا بالمغرب الشقيق ،
وأنقلها الآن كما هي دون زيادة أو نقص اللهم إلا تصحيح بعض
الأخطاء
أو توضيح بعض الأمور في هامش الصفحة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في كتابه العزيز : - { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }
الإهداء
إلى الرعيل الأول الذي كان قائما بالعمل بمرفق التسجيل العقاري في كافة أنحاء ليبيا ومن حافظ عليه طيلة عهود كثيرة ، وقام بكل ما يمكن من أجل ذلك حتى وصل إلينا واستفدنا منه في استقرار الملكية العقارية
خلال الحقب الأولى والعهد الملكي إلى أن جاء الطاغية المستبد الذي انفرد بالحكم وعاث في الأرض فسادا ، وارتكب فيها من الجرائم ما يندى له الجبين ،
ولعل من أكبرها حرق السجلات العقارية ووثائق الملكية التي تخص المواطنين وأملا ك الدولة والأوقاف ، وتسبب في الاعتداء عليها ممن لا يخافون الله ولا يتقونه .
فإلى ذلك الرعيل أهدي لهم هذه القصة التي دونتها منذ أكثر من ربع قرن وما كنت أحسب العيش حتى أصل إلى نشرها ، والحمد لله الذي أظهر الحق لتكون تأريخا لما حدث ولنعلم قيمة الوثائق التي يجب الحفاظ عليها وحمايتها .
الحلقة الأولي
الحمد لله رب
العالمين و
الصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم
الحمد لله خالق الخلق ومالك الملك ، يحيي ويميت ، بيده كل شيء ، وهو على كل شيء قدير ، نحمده سبحانه وتعالى على نعمائه التي لا تحصى
، وآلائه التي لا تعد ، وقدراته التي لا يطالها أحد ، فهو الذي خلق عباده عاجزين مهما أوتوا من قوة ، وغافلين عن أشياء مهما وصلوا من العلم ، جلت قدرته ، وعظمت حكمته
، إليه الأمر من قبل ومن بعد ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وجميع المرسلين ، ومن تبع دعوته بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد
فقد استخرت الله كثيرا قبل أن أخط هذه الكلمات فوق هذه الوريقات التي
سأحكي فيها عن حدث شاهدته بنفسي ، وعاصرته بجميع حواسي ، وكنت شاهدا له
وعليه في آن واحد ، أما عن كيفية الشهادة له ، فهي أنني شاهدت أدواره
وخيوطه ، وإن كنت لا أعلم بعضها ، غير أنني أعلم الكثير عنها ، بحيث
عرفت كيف نسجت وحبكت ، وأدوارها كيف وزعت ، أما الشهادة عليه ، فهي
معرفة التنفيذ كيف بدأ ، وذلك بصورة تفصيلية . أما عن هذا الحدث المهم
، والذي حز في نفسي ، وأثر على أعصابي ، وترك في عقلي وقلبي منظرا لا
أنساه ما حييت ، ولن تنساه الأجيال القادمة أيضا وحتى الآن بالرغم من
مضي ما يقارب السنتين على ذلك الحدث ، فإنني كلما لاح من جديد في
تفكيري ، أرتــعد وأشعر من جديد بالأسى والأسف والحسرة والندامة وينتابني
كره وحقد على بنـــي الإنسان الذي يعمر ويدمر ، يبني ويخرب ، يشيد ويحطم ،
شيء لا يصدقه العقل ولا ترضاه النفوس الطيبـة ، وتأباه كل القيم
الإنسانية الدينية والدنيوية ، ولله در القائل :
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهـدم
رأيت ألف بان لا يقوم
لهادم فكيف ببان وراءه ألف هادم
ولعلك أيها القارئ في شوق إلى
معرفة الحدث المعني بالأمر بعد هذه المقدمة الطويلة ، تلك هي واقعة حرق
السجل العقاري في ليبيا ، هذه الحادثة أثرت في نفسي – كما أسلفت - وحين
أذكرها أشعر بالخوف على بلادي بكاملها ، إن لم يكن على الإنسانية جمعاء
، ذلك لأن القيام بحرق الوثائق في القرن العشرين ، إنما يدل على
القهقرى والرجوع إلى الوراء مئات السنين.
[ أهمية الوثائق من الناحية التاريخية ]
إن العالم في الوقت الحاضر ، وفي جميع البلدان ، يحاول جاهدا المحافظة على كل أثر قديم،
سواء تمثل في أوراق مكتوبة ، أو أحجار منحوتة ، أو تحف وآثار، وأي أشياء أخرى تدل على ماضيه وحضارته ، وتاريخ أبائه وأجداده ، فكيف يعقل أن يقوم عاقل في هذا القرن الذي كثرت فيه وسائل المحافظة على الوثائق
، وتطور فيه علم التوثيق بالكتابة والرسم والصورة الفوتوغرافية والأشرطة الممغنطة ، إلى غير ذلك من الأمور ، بل وصل العلم في بعض الأحوال إلى تسجيل خيال الشخص ، أو الهيولا الخاصة به ، وذلك في محاولة تصوير الأرواح
، وهي معروفة عند من يتعاطى هذا العلم ، أفي هذا الزمن يأتي أفراد من البشر فيقدمون على حرق وثائق ومستندات في غاية الأهمية ، سنلقي فيما بعد إن شاء الله بعض الشروح والبيانات حولها.
هذه الأوراق – التي أخطها - ليست رسالة أو أطروحة أو كتاب ، وإنما خواطر أردت أن أسجلها حول هذا الحدث، وذلك قبل الممات
، وأحكي هذه القصة التي عايشتها وأعطي بعض خلفياتها ، وتفاصيل ما لم أذكره في مذكراتي الخاصة التي لخصت فيها القصة في حينها ، وعقب حدوثها مباشرة ، ولا أقصد من كتابتها إهانة أحد أو الإساءة إلى شخص معين ، أو نظام قائم
، بل هي سرد لواقعة تاريخية حدثت وكنت شاهدا عليها ، وعلي أن أكتب شهادتي ، عسى أن يتعظ بها من يقرأها ليعلم ما حدث، وليحافظ على حقوق الله وحقوق العباد من خلال الحرص على الوثائق مهما كان نوعها .
ولن ألتزم في كتابتها منهجا معينا ، أو تقسيما خاصا إلى أبواب وفصول ، أو فروع ومطالب ، كما يتم عادة في الكتب ، بل أترك لنفسي سجيتها في الكلام دون قيد إلا ذكر الحقيقة فقط ، فهذه شهادة فقط ، يؤديها شاهد وفق اطلاعه .
فكرت في أن أجعل من هذا الموضوع كتابا ينشر ، أو موضوعا ينال حظه من الشهر ، بحيث أتعرض فيه لواقعة الحرق وخلفياتها
، مع ربطها مع الأحداث العالمية المشابهة قديما وحديثا ، وفكرت حتى في اسم ذلك الكتاب ، بحيث وضعت في مخيلتي أن يطلق عليه ( وأد القماقم من عام الجماجم إلى سنة التعاتم ) وهذه التسمية في حد ذاتها تحتاج إلى شرح
، فهذا العنوان إذا طرح في الوقت الحالي يصعب فهمه على بعض الناس وأغلب الطلبة ، فما الذي تعنيه عبارة وأد القماقم ؟ ، ومتى وقع عام الجماجم ؟ وما هي سنة التعاتم ؟ وعلي أن أحاول شرح ذلك كله.
فكلمة
وأد ، تعني قتل النفس البشرية ، وهذا اللفظ ورد في كتاب الله في قوله تعالى {
وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت } وعلى ذلك تكون كلمة الوأد تعني قتل الإنسان ، أو قتل البنات وهن أحياء ، أما كلمة القماقم
، فهي جمع قمقم ، ومن قراءتي السابقة يقال إن سيدنا سليمان عليه السلام كان يحبس الجن الذي يخالفه في قمقم ثم يرميه في البحر ، فيبقى ذلك العفريت أو الجن في القمقم إلى أن يشاء الله ، ومعنى ذلك أن هذا الوعاء الذي كان يستعمله النبي
سليمان عليه السلام كان خير وسيلة لحفظ المردة والعفاريت فاستعرت هذه اللفظة كناية على إدارات ومكاتب التسجيل العقاري التي أنشئت لحفظ الوثائق من الحرق والتلف والتمزيق ، والكشط والتغيير والبلى وغيرها .
يحرص جميع الناس على وثائق ملكيتهم ، أو التي تثبت حقوقهم العقارية والمالية والشخصية ، بل حتى الوثائق العلمية والأدبية ، وقديما تفنن كل منهم في إبداع طريقة للحفاظ عليها
، فبعضهم يودعها خزانة حديدية أو صندوق أثري قديم ، وهناك من يجعلها في السقف مربوطة أو معلقة حتى لا يطالها الفار عدو الورق وهناك من يدفنها في جدار ، إلى غير ذلك من الأساليب ، ولو أنهم وجدوا قمقما لوضعوها فيه للحفاظ عليها
، لذلك فإن قمقم العصر الحديث هو إدارات ومكاتب التسجيل العقاري التي تحافظ على تلك المستندات ، غير أنها لم تكن مثل قمقم سيدنا سليمان ، حيث تسلط عليها عصابة نسوا ربهم ، ونقصتهما لهداية ، فقاموا بكسر القمقم ، وحرق الوثائق التي به .
قال الله تعالى فيما أعطاه لسيدنا سليمان عليه السلام : { والشياطين كل بناء
وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد }. لذلك عبرت عن الواقعة بعبارة وأد القماقم ،
وهي كناية عن حرق الأوراق والسجلات العقارية والوثائق التي كانت تضمها إدارات
ومكاتب التسجيل العقاري في ليبيا ، أما عن الكلمة الثانية وهي : عام الجماجم ،
فما المقصود من ذلك يا ترى ؟ وقع عام الجماجم سنة 82 هجرية ، ذكر هذه
الحادثة القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية
وأشار إليها الدكتور المرحوم صبحي الصالح في كتابه النظم الإسلامية في هذا العام تم إحراق الديوان الذي كان يضم أوراق الدولة ، ومن ضمنها أوراق وسجلات أراضي الإقطاع التي إقطاعها لبعض المسلمين
، وبمجرد حرق الديوان استولى كل قوم على القطائع الخاصة بهم وادعوا ملكيتها الكاملة ، ذلك لأن المستندات التي تبين صفة الأرض ، وكونها أرض إقطاع لا يجوز التصرف فيها ، لأن رقبتها مملوكة للدولة ، أي بيت المال حينذاك.
فهذه الحادثة تتشابه إلى حد بعيد ما حدث لحرق السجل العقاري ، وإن كان حرق الديوان في عام الجماجم لم يكن مقصودا في حد ذاته ، بل نتيجة فتنة مشتعلة بين الحكام في ذلك الوقت
، وكان فيها القتل كثيرا لدرجة أطلق عليه عام الجماجم من كثرة عدد القتلى ، وعلى ذلك فإنني اعتقد بأن حرق الديوان لم يكن متعمدا في ذاته ، غير أنه يعتبر أول حرق لوثائق خاصة بالملكية في التاريخ العربي ، لذلك اعتبرته من وأد القماقم أيضا .
أما عن سنة التعاتم ، فهي السنة التي تم فيها حرق السجلات والوثائق العقارية في ليبيا ، وهي سنة 1405 هـ 1985 ميلادية ، وقصدت من التعاتم أي تعتيم من العتمة ، والعتمة تعني الظلمة أو الظلام ، وتعتم على الشيء أخفاه بطريقة
محكمة أو شديدة لا يمكن معها الحصول على أي بيان منه أو معلومات ، والقصد من حرق السجل العقاري هو طمس جميع ما يدل على الملكية العقارية ، وحرمان الغير من الاطلاع عليها ، ولكن ليس بحفظها في مكان أمين ، ووضع حراس عليها
أو تخزينها في الحاسوب ( الكمبيوتر ) ولكن بحفظها بوسيلة تنهيها إلى الأبد ، وهي الحرق ، لطمسها نهائيا ، وهذا ما عبرت عنه بالتعتيم كناية عن الظلمات ، لذلك قلت سنة التعتيم ، فجاء العنوان [ وأد القماقم من عام الجماجم إلى سنة التعاتم ] .
ولكني لن أضعه في كتاب ، بل سأحكي قصة ما حدث للواقعة الحديثة تاركا الأمر لغيري من الباحثين ، عسى أن يتولوا هذا الأمر بالشرح والتفصيل والمقارنة بين ما حدث في ليبيا وما حدث في غيرها قديما وحديثا ، خاصة وأنني سمعت
مرة بأنه حدث في المجر مع بداية العهد الشيوعي حرق السجلات العقارية ، وقد أخبرني الأستاذ حسن بدر الدين بأن شخصا قام بإعداد أطروحة أو رسالة حول حرق السجل العقاري قدمها إلى إحدى الجامعات الفرنسية ، ولم أتأكد من الخبر.
لا شك أن حرق السجلات العقارية عملية أثرت في العالم ، أو في الرأي العام العالمي ،
حيث أخبرني الأستاذ علي بعيو بيت المال الذي كان خارج ليبيا في تلك الفترة ، أن شخصا أخبره بأن معلق التلفاز الفرنسي قد علق على عملية حرق السجل العقاري في ليبيا ، بقوله : " إنه أكبر جريمة ضد الإنسانية في القرن العشرين "
.
لذلك يجب علينا دراسة هذه الظاهرة ، أو هذا الفعل
ومعرفة أسبابه ودوافعه وأهدافه ، حتى نلم بما له وبما عليه لا خدمة في ليبيا وإنما للعالم أجمع
لأن هذه الحوادث إذا لم تقع في أغلب البلدان فإنها عرضة لأن تقع في المستقبل وبالتالي يجب أن تكون الإنسانية جمعاء على علم بها ، وبفوائدها ونتائجها حتى تتفاداها ، وقصدي من ذلك خدمة التاريخ فقط ورواية الأحداث كيفما شاهدتها
وعايشتها ، والفكرة التي كونتها عليها ، ولعلها صحيحة أو على جانب من الصحة أو كانت فكرتي على العكس من ذلك ، والله من وراء القصد.