موقــــــــع
    الدكتور جمعة محمود الزريقي


clavier arabe clavier arabe kijd clavier arabe kjd99 clavier arabe عدد الزوار

قصة حرق التسجيل العقاري سنة 1985

       كتبتها سنة 1987 عندما كنت مقيما في مدينة سلا بالمغرب الشقيق ، وأنقلها الآن كما هي دون زيادة أو نقص اللهم إلا تصحيح بعض الأخطاء أو توضيح بعض الأمور في هامش الصفحة .

الحلقة الاولى

الحلقة الثانية
[ بداية فكرة حرق السجل العقاري ]

      سمعت مثل غيري من المواطنين بعملية حرق التسجيل العقاري منذ السبعينات ( أي التفكير فيها أو الرغبة في تنفيذها ) وكان السيد محمد الجدي آنذاك وزيرا للعدل ، وكنت وقتها أشغل وظيفة أمين عام بلدية طرابلس  وسمعنا وقتها أن وزير العدل قد عارض عملية الحرق ، ولا أدري مدى صحة الرواية لأنني لم أسمعها من مصدر معين ، وبعد أن تمت إقالتي من وظيفة أمين عام البلدية ، اشتغلت مستشارا بأمانة ( وزارة ) المرافق ، ثم كلفت بإدارة التسجيل العقاري بطرابلس الغرب ، وكان الأخ محمد الزوي وزيرا للعدل ، وهو الآن سفيرنا في الرباط ، التقيت به في سنة 1982 أو 1983 في مكتبه ، وحكى لي عن الرغبة في حرق السجل العقاري من قبل القوى الثورية ، وأنه عارض الفكرة ، ونجح في إبعادها في تلك الفترة ، وفي تلك المقابلة أوضحت له الخطورة التي تكمن في ذلك إذا وقعت ، ونوهت بجهوده وحرضته في الواقع على محاربة هذا الاتجاه الذي يهدف إلى طمس معالم الملكية العقارية والآثار التي تنجم عن ذلك وهي آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية وتاريخية وعلمية ، بل آثار عديدة لا يمكن حصرها ! ! .

[الفلسفة وراء حرق السجل العقاري ]

       ويرجع أمر الرغبة في الحرق من قبل قوى الثورة إلى أن من مبادئ الثورة القضاء على الاستغلال ، وأحد مظاهره الإيجار والأجرة ، بحيث يتمكن ملاك الأراضي والمباني من تأجيرها إلى المحتاج لها ، ومن ثم يظل تحت رحمة المالك إن شاء أبقاه وإن شاء أخرجه ، إلا إذا زاد في قيمة الكراء ، لذلك كان الاتجاه إلى تمليك المساكن إلى شاغليها رغبة في تحرير ساكنيها من رقبة الأجرة ، هذا ملخص الفكرة [ التي كانت مطروحة ] ولن أناقشها من وجهة نظر الشريعة الإسلامية وذلك لصعوبة الحكم لها أو عليها ، لأن الأمر يحتاج إلى دراسة معمقة حتى يمكن الوصول إلى رأي سليم .  

[ تمليك المساكن لساكنيها بموجب القانون ]

      ولكن أمور المسلمين حاليا لا تتم كلها مطابقة للشريعة الإسلامية ، ولكن إذا دققنا النظر في الاجتهادات الفقهية أو بعضها ، فإننا نجد بعض الآراء أو المذاهب التي تساند ذلك  بل أن بعض المذاهب تعتبر أن الأرض ليست ملكا لأحد – أي ملكية الرقبة – وليس للأفراد إلا الانتفاع ، وقد سمعت هذا الرأي من أستاذي الدكتور خالد عبد الله عيد أستاذ القانون المدني والشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس ( الرباط ) حيث نقل لي بأن بعض الآراء وأرجحها في المذهب الحنفي تقول بذلك  . على كل حال فإن الفكرة إن لم تكن مطابقة للدين من حيث سلب الناس أملاكهم بالقوة رغما عن إرادتهم ، فإنها تجد قبولا من بعض الناس ، خاصة من ظلم وطرد من مسكنه بناء على رغبة المالك في إعادة استغلال عقاره ، أو تفضيله لشخص دون آخر ، ولكن المهم كيف يتم تطبيق ذلك ، إن الفكرة خرجت في الكتب وتناولتها الصحافة ، ولكن ليست بالمناقشة الحرة ، بل بالتأييد والتهليل ولم يستطع أح د أن يكتب فيها برأي نابع من الدين أو بدراسة جادة ، وكما قال ابن خلدون في المقدمة : إن السلعة لا تنفق في سوق الحاكم ما لم يرتضيها – ويقصد سلعة الأدب والعلم – فإذا لم توافق آراءه وأفكاره فلن يسمح بها) . لذلك فإن الكتابة في هذا المجال دائما تكون موافقة للاتجاه وسائرة في خط التأييد ، مع أنني أقول وبتجرد ، والله يعلم القصد ، إنه لو بحثنا في هذا الموضوع بحثا دقيقا لوجدنا من السوابق الإسلامية والآراء الفقهية ما يعيننا على تنفيذ

لك الهدف بوسائل لا تعارض على الأقل المبادئ الإسلامية إذا تم تعويض ملاكها تعويضا عادلا ، ومع ذلك لم يجرؤ أحد على الخوض في هذا الأمر إلا بما يوافق ، فالشعار المطروح نافق أو وافق .

[ معارضة المفتي الشيخ الطاهر الزاوي للفكرة ]

      الوحيد الذي أعلم أنه تصدى لذلك هو المرحوم الشيخ الطاهر الزاوي الذي أصدر فتوى سنة 1973 في الأراضي التي صدرت قرارات ينزعها للمنفعة العامة بغرض تقسيمها وإعادة بيعها للمواطنين ، حيث صرح فيها بأن سلب الأراضي والأملاك حرام ، وأنه لا يجوز فيها للمسلم الصلاة أو الإقامة لأنها أخذت قهرا منه ، وعمم الفتوى على البلديات والإدارات ، وقد رأيتها مكتوبة عندما وردت إلى بلدية طرابلس وكنت خلالها أشغل وظيفة مساعد الأمين العام للشؤون الإدارية بالوكالة خلال فترة شهر ، وعندما وردت الفتوى أحلتها إلى الأخ الحاج عبد السلام بن زقلام ، الذي كان يشغل وقتئذ رئيس المجلس البلدي ( عميد البلدية ) بالوكالة ، وتحصل على ذلك خصم ستة أيام من مرتبه لأنه قبل الفتوى . ومن ذلك الحين همش الشيخ الطاهر ولم يعد له وجود إلا في الحياة ، ولم يعد يذكر في ( ص 7 ) وظيفته ، وقد كان قبل ذلك يظهر في مناسبة رمضان لإعلان بداية الشهر ، فيوجه كلمة في التلفاز ، أو لإعلان شهر شوال وهكذا ، ومنها طمس ذكره دون إقالته رسميا ، أو إلغاء وظيفة الإفتاء ، إلى أن توفاه الله سنة 1986 ، عليه ألف رحمة من الله سبحانه وتعالى ، هذا هو الواقع .   

[ معارضة المواطنين للقانون رقم 4 لسنة 1978]

     أما عن أفراد الشعب فإن ملاك الأراضي والمساكن فهم ليسوا راضين بذلك ولا يرغبون في أن ينفذ ذلك الشعار، بل بدأ بعضهم يتصرف في ملكه ويوفق وضعه فيهب لأبنائه صوريا ويبيع بأقل ثمن ، أو يبيع لأقربائه ، وهكذا ، أما بقية المواطنين فهم منقسمون ، فمنهم من يؤيد ويطالب بالتطبيق لكي يتمكن من امتلاك دار كبيرة أو شقة أو أرض يتمكن من البناء عليها ، ومنهم من يعارض هذا الاتجاه لأنه يرى فيه مخالفة للدين وتعاليم الإسلام ، وهم قلائل . على كل حال حسم الأمر بصدور القانون رقم 4 لسنة 1978 الذي قنن تلك الأفكار ، وملخص القانون إبقاء مسكن واحد لك مواطن أو قطعة أرض واحدة للبناء عليها ، وأيلولة ما زاد على ذلك إلى الدولة التي تقوم بتمليكها للغير مقابل ثمن مناسب ، وهذا الثمن يؤدى للمالك السابق ، وقد أعطى القانون للمالك السابق حق الاختيار أحد المساكن التي كان يمتلكها ، ويخصص لأبنائه الذكور المتزوجين أو الذين يتم عقد قرانهم خلال سنة ، أحد المساكن التي كان يملكها . والحقيقة التي يمكن ذكرها الآن وبتجرد ، أن نصوص القانون حكيمة ، وأنه لا يخلو من العدالة ، ذلك لأن المالك له حق الاختيار ، وله التعويض بحيث يؤول إليه المبلغ الذي يؤديه المؤجر مقابل التمليك ، وفي حالة إعفاء المملك تتحمل الدولة دفع المبلغ ، كما أن أولاد المالك لهم حق وكذلك مطلقته التي تعول أبناءه وهكذا ، ويجوز له بعد ذلك أن يبيع سكنه ويستبدل به سكنا آخر وهكذا ، ولكن هل تم التطبيق على هذا الأساس ؟ ، هذا هو بيت القصيد ؟ .

[ سوء تطبيق القانون رقم 4 لسنة 1978 ]

      فعندما صدر القانون شكلت لجان لتنفيذه ، ودخل فيها من هب ودب ، وأصبحت تلك اللجان تقوم بتخصيص المساكن دون الرجوع إلى إقرار المالك ورغبته التي ذكرها فيه ، وكثر التلاعب بالمساكن من قبل تلك اللجان ، وأصبح المالك في حيرة من أمره ، ويطالب بتنفيذ القانون بالحصول على التعويض وعلى المسكن الذي اختاره ، ولكنه لم يجد أذنا صاغية ، بل ينظر إليه كأنه سارق لتلك الأموال ، ويعامل كأنه رجعي وبرجوازي ، وما إلى ذلك من الأوصاف التي كانت تطلق بمناسبة أو بدون مناسبة . كانت معظم المساكن الفاخرة مؤجرة إلى سفارات أو شركات ، فقامت تلك اللجان بإخراج ( ص8 ) الشركات والسفارات ( مساكن الدبلوماسيين ) مقابل تخصيصها لزيد من الناس أو عمرو ، وتم التلاعب في الأراضي من قبل اللجان الشعبية ، ففي بلدية طرابلس أصبحت الأراضي لا تخصص لمستحقيها من الفقراء والمحتاجين ، بل لأصحاب الوظائف العامة والمتسلقين من رافعي الشعارات الهاتفين بدون إيمان في قلوبهم مع دفع الرشاوى ، وكانت تتم أمام عيني وناظري وأنا حينذاك مسؤول في البلدية ، وكنت ابتعد عن تخصيص الأراضي ومشاكلها لأنني أعلم خلفياتها . وأثرى بعض المسؤولين من تخصيص الأراضي ثراء فاحشا مقابل ذلك ، منهم (. . . . ) المحامي الذي كان يخصص الأراضي لكبار الضباط والموظفين مقابل مبالغ يتقاضاها ، ومعه بعض أعضاء اللجنة الشعبية ، مثل ألمهندس (. . . . ) والمهندس( . . . . ) إضافة إلى المشاريع ، ولقد قمت بإحالة جميع الملفات الخاصة بهذه العمليات إلى الجهاز المركزي للرقابة الإدارية ، وفيها جميع التخصيصات التي يمكن أن تشكل جرائم جنائية ، ولكن الموضوع حفظ في الرقابة ، وكان ذلك سنة 1978 أو 1979 ، على ما أذكر ، وأعتقد أن ما حدث في البلديات الأخرى يطابق ما حدث في بلدية طرابلس إن لم يكن أسوأ منها . أضف إلى ذلك تلاعب الإسكان في تخصيص المساكن التي آلت إليها أو الشقق التي بنتها الدولة ، فقد كانت تتم بنفس الكيفية ، إما عن طريق رشوة أو (....) وما إليها ، أو لضابط كبير في القوات المسلحة ، أو صاحب وظيفة يمكن عن طريقه قضاء بعض المصالح ، هذه هي الطريقة التي تم بها تنفيذ القانون ، فلو أوكل الأمر إلى أناس شرفاء يمتازون بالعدل ، ونفذوا القانون بصورة سليمة لما حدث ذلك ، وكان يفترض إجراء إحصاء عام ، ثم تسوية أوضاع الملاك السابقين وإرضائهم بالشكل الذي نص عليه القانون ، وذلك بتخصيص السكن الذي اختاروه وتسليمه لهم ، وكذلك المساكن التي سمح القانون بتخصيصها للأبناء ، وكذلك مطلقته ، وتسوية التصرفات التي رتبها على أملاكه بما فيها المبالغ التي اقترضها من المصارف ، ثم حصر واستخلاص الزائد على الحاجة ، ومن ثم توزيعه بطريقة سليمة للمستحقين دون محاباة وبالعدالة . لو تم ذلك لكانت تجربة يمكن أن يقتدى بها في بعض الدول ، ولكان إرضاء للملاك وتمكينهم من الحصول على تعويضاتهم ، واستغلال مواردهم في طريق مشروع وفقا للاتجاهات السائدة ، والذي حدث هو العكس ،فأصبحت الفوضى ضاربة أطنابها ، ودخل الناس في الحرام ، ولم يعد التفريق ممكنا بين الحلال والحرام ، وأصبح التكالب على مساكن العباد بطريق أو بآخر ، وكل يمني النفس بالحصول على فيلا كبيرة في أرقى المناطق التي كان يسكنها ( ص 9 ) السفراء ومدراء الشركات والوزراء وهلم جرا ، ووصل الأمر إلى أن (. . . .) وهو شاعر شعبي كان راعيا للغنم وسائحا في الأرض، قام بتمليك فيلا في حي الأندلس ، وتحصل على قطعة أرض من البلدية لأنه يمدح النظام كثيرا . وأصبح غزو المساكن أمرا شائعا لدرجة أن المواطن لا يستطيع مغادرة مسكنه خوفا من السطو عليه من قبل باحث عن السكن بالمجان تطبيقا للشعار البيت لساكنه ، ولا أدري على من يعود الدرك هل على صاحب الفكرة أو الذي طبقها ؟ ، على كل حال هذا ما حدث ، استمر تطبيق القانون على هذا المنوال من سنة 1978 إلى سنة 1981 على ما أتذكر أو سنة 1980 حيث حلت جميع تلك اللجان بما فيها اللجنة العليا التي كان يرأسها وزير العدل . واسند أمر تلك المساكن فيما بعد إلى إدارات ومكاتب التسجيل العقاري لتقوم بتمليكها لشاغليها ، مع إعطاء حق التظلم لملاكها الأصليين ، ومن ضمن القرار الذي حدد الاختصاص أنشئت لجان للنظر في التظلمات التي تقدم ضد التمليك الذي تم بالمخالفة لأحكام القانون رقم 4 لسنة 1978 ، وتقوم هذه اللجان بالبت في التظلم ، ومن تم تسجيل العقار لشاغله أو رفض التسجيل إذا كان ملكا وحيدا ، أو لا ينطبق عليه القانون ، وطبقا لهذا التعديل تم تقديم العديد من التظلمات إلى إدارات ومكاتب التسجيل العقاري ضد قرارات التمليك التي تمت لبعض المواطنين .

[ عملي في السجل العقاري ]

      كلفت بإدارة التسجيل العقاري والتوثيق بطرابلس في فبراير 1982 ، وكنت قبل ذلك أشغل وظيفة مستشار قانوني بأمانة ( وزارة ) المرافق ، حيث عينت فيها سنة 1981 ، بعد أن بقيت حوالي سبعة أشهر أو أكثر تحت تصرف الخدمة المدنية ، أي على الرف كما يقول التعبير العامي الشائع ، ذلك أن اللجنة الشعبية العامة ( مجلس الوزراء ) أحالتني مع ثمانين موظفا من بلدية طرابلس تحت تصرف الخدمة المدنية ، بعد أن قضيت في البلدية حوالي خمس عشرة سنة تقريبا وسبب الإحالة الحقيقي لم أذكره في مذكراتي الخاصة التي ذكرت فيها الأحداث بالتفصيل ( أي حرق السجل العقاري )، ولكني فهمته بعد ذلك بشهور ولم أدونه ويمكن ذكره الآن في هذه المناسبة خوفا من ضياعه أو نسيانه ، وإن كان المقام لا يقتضي ذلك ، لأن هذه الوريقات خصصتها لرواية حرق السجل العقاري. .

[ سبب إحالتي على الخدمة المدنية ]

      لقد شغلت وظيفة أمين عام بلدية طرابلس منذ سنة 1976 ، أي بعد سنة التخرج من كلية الحقوق جامعة بنغازي ، وكنت قبلها أشغل وظيفة رئيس قسم الرخص ، وعندما كلفت كنت في تلك الفترة في مدينة بنغازي لأداء امتحان السنة الرابعة ، الليسانس ( الإجازة ) وبعد أن حضرت إلى طرابلس ، استلمت الوظيفة وكان (. . . ) أمينا للجنة الشعبية للبلدية ( ص 10) وكان هذا الشخص مغرورا وانتهازيا ، يحكى عنه أنه عندما كان طالبا في الخارج لتحضير درجة الماجستير في الهندسة المدنية ، كان يقول لزملائه : إنه سيعود ولن يكمل دراسته لتحضير درجة الدكتوراه ،لأنه سيغنم ويفوز بثروة ، لأن الوقت مناسب من خلال الفوضى الضاربة أطنابها ، وأنه سوف يجلس على كرسي القرماللي ، أي سيشغل منصب عميد بلدية طرابلس ، وهو ليس من أهالي المدينة بل من الطارئين عليها .

    باختصار كان له ما أراد ، واستلمت الوظيفة ، وأنا لم يكن لي معرفة به في السابق ، وبعض أعضاء اللجنة الشعبية كذلك، وما أن مرت فترة حتى بدأ صراع بيني وبينه ، كان في أول الأمر سلبيا ثم بدأ إيجابيا ، وصل إلى درجة أنني قمت بإحالة جميع المخالفات التي ارتكبها، والتي كنت أعلمها ، لأن ما غاب عني كان كثيرا والله أعلم ، قمت بإحالتها إلى الرقابة الإدارية ، وبعد أن مرت الفترة الزمنية لشغله الوظيفة ، ولم ينجح في التصعيد لها من جديد ، وصعد بدله زميله ورفيقه في الدهاء والمكر والخبث ( . . . ) ولا يختلف الأول عن الثاني إلا في الأسلوب فالأول أمريكي في تكبره وغطرسته وتعاليه ، والثاني انجليزي في هدوئه وابتسامته ومكره ودهائه ، وكما يقول المثل : يقتل القتيل ويمشي في الجنازة ويقدم العزاء ، وقبل أن يتولى هذا الشخص طوينا صفحة العداء بوساطة بعض الأصدقاء ، وبدأنا صفحة التعاون كما بدا لي ، ولكن الأيام ستكشف حقيقته .

   كانت إجراءاتي في العمل تتمثل في إتباع القانون دون سواه ، وإن كانت لي من مخالفات فإنها إما أن تكون غير مقصودة ، وإما أن تكون في صالح المجتمع أو أفراد يستحقون المساعدة ، والبشر متصف بالنقص والكمال لله ، أما عن العطاءات التي تقدم إلى البلدية في المشاريع الكبيرة التي تطرحها ، وهي محل الفهلوة والسلب والرشوة والفساد ، فلا يخفى عني التلاعب الذي كان يقوم به بعض أعضاء اللجنة الشعبية في التكليفات المباشرة التي تتم من قبل أمين اللجنة الأول والثاني وغيرهم ، وكنت ابتعد عنها ، وهما أيضا يبعدانها عني ، وكذلك تخصيص الأراضي .

    أما لجنة العطاءات فلم يستطيعوا ذلك لأنها مشكلة بموجب القانون برئاسة أمين عام البلدية ، لذلك فلم يجدوا إليها سبيلا ، وكنت أقوم بتطبيق القانون في إجراءاتها بصورة مرضية ، وبشأن الأمور الأخرى التي تخص التنفيذ والدفع ، فلا علم لي ببعض ما يتم فيها بصورة كاملة ، وكان أمين اللجنة الشعبية الأول أثناء توليه وظيفته يحاول التدخل في العطاءات فرددته مرارا ، وفي إحدى المرات طلبت منه مغادرة القاعة نظرا لأنه ليس عضوا في اللجنة وإن كان ( ص11) بحكم القانون هو رئيسي المباشر .

    أختصر القصة لأصل إلى مشروع مهم طرح في سنة 1979 ، وهو مشروع الطريق الدائري ، الذي تبلغ تكلفته الملايين العديدة من الدينارات ، فتقدمت له أربع شركات لتنفيذ المرحلة الأولى ، شركة كوزنغلو التركية وكان عرضها أقل الأسعار ، وشركة بلفنجر ويبروجويكا ، وكان عرضها أعلى الأسعار ، وشركتان أخريتان كان عرضهما أوسط الأسعار ، ومن الطبيعي أن تقوم لجنة العطاءات بترسية المشروع على أقل الأسعار، بعد التأكد من كفاءة الشركة والالتزام بشروط المواصفات ولائحة العقود ، قامت الشركة الاستشارية التي صممت المشروع ووضعت دراساته ومواصفاته بدراسة العروض وأعطت شهادة بان الشركة التركية قادرة على تنفيذ المشروع ، كما قامت اللجنة الفنية المالية بالبلدية بدراسة العروض وأوصت بإسناد المشروع للشركة التركية لأنها صاحبة أقل الأسعار .

    غير أن أمين اللجنة الشعبية للبلدية وبعض أعضائها يتخوفون من إسناد المشروع للشركة التركية نظرا لعدم كفاءتها حسبما صرحوا لي بذلك، ولكن أمام أحكام القانون لا يجوز إسناد المشروع إلى شركة بلفنجر لأن فارق السعر كان كبيرا ، فالمرحلة الأولى كان عرض الشركة التركية تنفيذها بقيمة 38,455,693,65 دينارا ، ثمانية وثلاثين مليون دينار ونصف تقريبا ، بينما تطلب شركة بلفنجر 56,826,898,500 دينار ، سبعة وخمسين مليونا دينار تقريبا  وهذا الفارق الكبير لا يتفق مع لائحة العطاءات التي توجب إسناد المشروع لصاحب أقل الأسعار بعد التأكد من القدرة والكفاءة للمقاول .

  قمنا باستدعاء الشركات الثلاث لإجراء ممارسة معهم عسى أن يقوموا بتخفيض العرض المقدم منهم ، فاستجابت الشركة التركية ولم تستجب شركة بلفنجر ، واجتمعت لجنة العطاءات مع الشركة التركية وطلبنا منها تقديم ضمان حكومي لتنفيذ المشروع رغم أنها مقدمة ضمان مالي طبقا للائحة ، وفعلا أحضرت الشركة رسالة رسمية من وزير التجارة التركي يتعهد فيها ويضمن الشركة في تنفيذ المشروع ، وكان القصد من هذا الإجراء هو إزالة التخوف الذي يبديه أمين اللجنة الشعبية ، وميوله بإسناد المشروع لشركة بلفنجر .

    ولكي أقطع عليه خط الرجعة ، لأنني أعلم نواياه ، ونوايا بعض أعضاء اللجنة الشعبية ، والجدير بالذكر أن شركة بلفنجر حاولت معي بطريقة إرسال شخص لا أذكره حاليا ، قال لي : " أنت دائما رأسك مسكر ، الجماعة حولك يغرفون وأنت متمسك بالمبادئ ، فلتأكل مبادئ وتشرب منها " فكان جوابي دائما في مثل هذه الأحوال ، هو العيش فقيرا والموت شريفا خير من التكسب بالحرام ، فمال الحرام لا يدوم وإن دام لا يثمر ، والحمد لله فأنا بهذه ( ص 12 ) الطريقة أعيش سعيدا مطمئنا ، لا آكل إلا من عرق جبيني وبالحلال ، وكنت أقول لمن يلوح لي بهذه الأفكار : إنني أعلم عن طريق السماع بأن بعض الموظفين وأعضاء اللجنة الشعبية يتقاضون رشاوى دون أن أقف على دليل . كما أشعر من خلال مصروفاتهم وطرق معيشتهم وترفهم أن لديهم أموالا أكثر مني رغم أنني أتقاضى أكبر مرتب باعتباري أشغل أعلى وظيفة إدارية في السلم الوظيفي ، ولكنهم أغنى مني بكثير .

[ مصائب المال الحرام ]

      وهذا لا يقلل من شأني في نظري ، لأن النجاة في الحلال، أقول لهؤلاء إن المال الحرام حتى إذا لم يكتشف جامعه ويعاقب ، فإنه سيعود عليه وبالا ومرضا في جسمه ، أو في أولاده ، فقد يحدث لأحد أبنائه عاهة مستديمة تجعله ينفق عليه ماله كله ، الحلال والحرام ، ولا يبرأ من ذلك الداء العضال ، هذا كله ناتج من مال الحرام ، وأنني والحمد لله لدي سبعة أطفال كالعفاريت ، لا يشكو أحد منهم مرضا ، وليست به عاهة ، وهذا من فضل الله . نعود إلى شركة بلفنقر ، لاح لي أن أمين اللجنة الشعبية ومساعد الأمين العام يميل ويرغب في اسناد المشروع ( تنفيذ الطريق الدائري ) إليها ، وكذلك بعض أعضاء اللجنة الشعبية ، أما لجنة العطاءات ، وهي مشكلة برئاستي وعضوية كبير المهندسين وكبير الماليين ( مساعد الأمين العام للشؤون الفنية ، ومساعد الأمين العام للشؤون المالية ) وعضوين من أعضاء اللجنة ، فهؤلاء يميلون لإسناد المشروع لشركة بلفنجر ، ولكنهم أمام إصراري على تطبيق القانون ( الترسية على أقل الأسعار ) لم تجد اللجنة بدا من إسناد المشروع – بعد عدة جلسات ومناقشات – على الشركة التركية باعتبارها أقل الأسعار ، وذلك طبقا للائحة العقود ، وهنا تنتهي مسؤوليتي بحكم القانون ، حيث يرفع الأمر للجنة الشعبية للبلدية ، فهي التي تكون لها الصلاحية في اعتماد محضر لجنة العطاءات أو إعادة طرحها من جديد لم يعتمد المحضر أو يرفض ، واعتبرت الموضوع منتهيا فليست لي ناقة ولا جمل فيه .

[ اعتقالي من قبل اللجنة الثورية بطرابلس ]

      لم تمض سوى أسابيع من ترسية المشروع ، وفي خلال شهر رمضان 1980 وأنا بمقر عملي ليلا ، حوالي الساعة العاشرة والنصف ، حضر شخص من اللجنة الثورية بطرابلس ، واستدعاني مع المهندس محمد الباشا ، الأمين العام المساعد للشؤون الفنية ، والمبروك الشكماني ، أمين سر لجنة العطاءات بالبلدية ، وفعلا ذهبنا إلى مقر اللجنة الثورية في تلك الليلة ، فقالوا لنا : بأننا استدعينا إلى المثابة بناء على تعليمات الرائد الركن عبد السلام جلود ، هذه هي العبارة الوحيدة التي سمعتها ولا ندري عن الأسباب الأخرى ، فالرجل لا أعرفه ، ولم يسبق لي أن قابلته ، وهو مسؤول كبير كما نعلم ، ولا أعتقد بأنه يعرفني ( ص 13 ) ولم أدر ما هي التهمة التي ستوجه إلينا ؟ ، وفي تلك الليلة تم اعتقالنا ووضع كل واحد منا في سجن انفرادي ، ليبدأ التحقيق معنا في اليوم التالي . لا أطيل في الموضوع ، فقد كتبت ما حدث لنا خلال ذلك الشهر المبارك من سجن وقيد للحرية ، وإن كنا بفضل الله لم نتعرض للضرب والشتم [ كنت أسمع ليليا صوت العصي تتكسر جراء ضرب بعض الموقفين وصياحهم من شدة الضرب دون أن أراهم ] ، ولكنا حجزنا لمدة أربعة أيام ، وبعد ذلك أخرجنا في إحدى الليالي ، حوالي الساعة العاشرة ، ونقلنا إلى مقر البلدية . .

[ أجبرت على تسليم وظيفتي ليلا ]

      وطلبوا مني تسليم مكتبي وما في عهدتي إلى الأخ إبراهيم المقهور الذي كلف بوظيفتي بعد ذلك [ لم يصدر بذلك أي قرار أو أجراء إداري أبلغ به أو أطلع عليه ] وفعلا دخلت إلى مكتبي وكان مفتوحا ، ولا يوجد به ما أقوم بتسليمه ، فأنا موظف قيادي ، ليست لي ملفات خاصة ، كل ما عندي في مكتبي هو بعض المصادر والمراجع القانونية ، والتي استعين بها في العمل ، أو أشياء خاصة مثل السجائر [ كنت مدخنا آنذاك ] وغيرها ، أخذت كتبي وأوراقي الخاصة ، وتركت المكتب للأخ إبراهيم [ انتقل بعد ذلك بسنوات إلى رحمة الله ] بما فيه ، وحرر بيننا محضر تسليم شكلي، فهو لم يستلم شيئا سوى المكتب ، وبعد ذلك دخلنا إلى مكتب أمين اللجنة الشعبية حيث وجدناه في المكتب ، فتأسف كعادة الانجليز ، وابتسم مثلهم وكان معه بعض أعضاء اللجنة الشعبية .

[إسناد تنفيذ الطريق الدائري لشركة بلفنجر بالمخالفة لقرار لجنة العطاءات]

      قال لي أمين اللجنة الشعبية للبلدية : إن مشروع الطريق الدائري تم توقيعه مع شركة بلفنجر ، وذلك في جميع مراحله ، المرحلة التي طرحت والمراحل الأخرى التي لم تطرح فكان جوابي : مبروك عليكم ، [ إن إسناد مشاريع كبيرة بهذه السهولة دون إتباع الإجراءات القانونية يدل على أن قوة كبيرة أجبرتهم على ذلك ، فمن هي ؟ ] وتجاذبنا أطراف الحديث ، ثم أخذني أعضاء اللجنة الثورية بطرابلس إلى المثابة ( مقر اللجنة ) ومنها رجعت إلى بيتي حيث تم الإفراج عنا نحن الثلاثة .

[ إعادة الاعتقال من جديد ]

      ونظرا لقيام عدد من الأصدقاء والمعارف والزملاء بزيارتنا في بيوتنا للتهنئة بسلامة الخروج من سجن اللجنة الثورية بطرابلس ، وهذا يدل على براءتنا من التهم الموجه إلينا ، وما صاحب ذلك من مظاهر لافتة للنظر أمام سكان المناطق التي بها إقامتنا ، وهذا لا يرضي اللجان الثورية آنذاك ، لذلك تقرر إعادة اعتقالنا من جديد لوقف تلك المظاهر التي لا تسر قوى الثورة ] لذلك أعيد اعتقالنا من جديد ، ولمدة ثلاثة أيام خلال شهر رمضان ، ولكن لم يكن حبسنا انفراديا كما كان أول مرة ، بل كنت صحبة المهندس محمد الباشا والأخ المبروك الشكماني ، وفي صالة كبيرة ، كنا نصلي فيها جماعة ونقضي وقتنا في قراءة القرآن أو المسامرة في شتى المواضيع . ثم أطلق سراحنا على أن نقوم بالحضور إلى المثابة ليليا للتوقيع وإثبات الحضور إلى آخر يوم في شهر رمضان ، أو قبل ذلك بيوم أو يومين ، واشترط علينا أن تلتزم الإقامة الجبرية في بيوتنا بعدم استقبال الضيوف عدا الأقرباء وعدم زيارة أي شخص آخر في بيته ، مع حرية الذهاب إلى المدن الأخرى لأي طارئ . وقد ذكرت ذلك تفصيلا في مذكراتي الخاصة ، وفي آخر ليلة وقعت فيها داخل مقر المثابة الثورية أبلغت شفويا بأنني بريء ولم يتضح وجود أخطاء في عملي وعلي أن أتدبر أمري في العودة للعمل أو عمل أي شيء آخر ، وهذا كان جوابهم ، ورجعت إلى بيتي دون أن أفكر في الرجوع إلى العمل البتة ، وقررت أداء فريضة الحج صحبة زوجتي ، وبعد ذلك يفعل الله أمرا كان مفعولا .

 

يتبع في الحلقة الثالثةإن شاء الله
[ الحصول على شهادة البراءة من اللجنة الثورية ]