موقــــــــع
    الدكتور جمعة محمود الزريقي


clavier arabe clavier arabe kijd clavier arabe kjd99 clavier arabe عدد الزوار

قصة حرق التسجيل العقاري سنة 1985

       كتبتها سنة 1987 عندما كنت مقيما في مدينة سلا بالمغرب الشقيق ، وأنقلها الآن كما هي دون زيادة أو نقص اللهم إلا تصحيح بعض الأخطاء أو توضيح بعض الأمور في هامش الصفحة .

الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة
[ الحصول على شهادة البراءة من اللجنة الثورية ]

        تحصلت بعد ذلك من مكتب الاتصال باللجان الثورية على شهادة تفيد بأنه تم التحقيق معي واتضحت براءتي وعلي العودة إلى عملي ، وهذا نص الشهادة : 

[ العزل من الوظيفة ]

    ولكن ، ما أن صدرت الشهادة حتــــى علمت بأن قرارا من اللجنة الشعبيـــة العامـــة ( مجلس الوزراء ) قد صدر بإحالتي للخدمة العامة صحبة ثمانين موظفا من البلدية ، معظمهم من الفنيين والكتاب الإداريين ، والغريب في الأمر أن بعض الفاشلين في وظائفهم ، ممن كتبت فيهم تقارير علنية ومذكرات ، طلبت فيها تكليفهم بأعمال أخرى بدلا من الوظائف التي يشغلونها حاليا ، لأنـها لا تتفق مع مؤهلاتهم وقدراتهم ، هؤلاء لم يشملهم قرار الإحالة مما يدل على أن الأمور تسير عكس الإصلاح . سلمت أمري إلى الله ، وفرحت وحزنت ، كانت فرحتي لأنني نجوت من مكيدة يمكن أن تؤدي بحياتي أحيانا ، فالتكالب على المال قد يلجئ إلى إزهاق الأرواح ولأنني تخلصت من وظيفة كانت ترهقني أكثر مما أستفيد منها ، وأعطي أكثر مما آخذ ، وأحيانا استخدم من حيث أدري أو لا أدري لتحقيق أغراض شخصية لا علاقة لي بها ، وكان حزني لأنني بذلت جهودا كبيرة في التنظيم وتطوير المرفق وكونت العديد من الأطر ، وشاركت في بناء عدة أقسام وإعادة ترتيب الإدارات والمرافق ، وخلقت فيه نوعا من الحماس ، وكنت حلقة وصل بين اللجنة الشعبية والموظفين ، وأغلب جانب الرحمة والعدل على الجميع ، فلم أكن متشددا إلا في صرف الأموال ، كما حزنت أيضا على العدد الهائل من الموظفين الذين شوهوا معي ، فإذا كنت مقصودا وحدي ، فلماذا يلحق بي هذا العدد من البسطاء مثل السائقين والفنيين والموظفين وبعض المهندسين ، ما ذنب هؤلاء [ في أن يشملهم قرار الإحالة إلى الخدمة المدنية ] ؟ . وهكذا ، كل ما بنيته وبذلت فيه من عرق وجهد ضاع بجرة قلم من جاد الله عزوز الطلحي ، أمين اللجنة الشعبية العامة وقتئذ ، وقد قلت وقتها أبياتا من الشعر لا أذكرها حاليا ، بدأتها : - جاد علي جاد الله وليته ما جاد ولم أعرف في حينها سبب الإحالة [ على الخدمة العامة ] وكان همي آنذاك هو أداء فريضة الحج فقط ، وبعدها ستتضح الأمور ، ولكن ما أن عدت من الحج حتى بدأ التفكير فيما حدث ، دون أن أقوم بأي إجراء أو تقديم شكوى ، رغم أن بعض أصدقائي طلبوا مني تقديم شكوى أو إثارة الموضوع بأي شكل ، غير أنني أشعر بأن الموضوع لا يستحق ذلك، لأن ما حدث كان في صالحي ، حيث إن البقاء بعيدا عن الأضواء فيه السلامة من الاحتراق ، فلمن أشكو أو التجئ والشكوى لغير الله مذلة كما يقال . كانت ترن في أذني العبارة الأولى التي سمعتها في بداية الأحداث من اللجنة الثورية بطرابلس [ والتي قالها لي أكبر الثوريين فيها آنذاك علي الرابطي عندما استدعيت إلى مقر اللجنة الثورية ] " أحضرناك بناء على تعليمات الرائد الركن عبد السلام جلود " يا ترى هل يعلم هذا الرائد من هو جمعة الزريقي ؟ وما هي أخلاقه وطريقة عمله ومستواه الثقافي والإداري ؟ والإصلاحات التي قام بها طالما لم يكن هناك فساد إداري أو مالي أو سياسي أو جريمة معينة ؟ ، إذا لماذا يأمر بإحالتي للتحقيق من قبل اللجنة الثورية بطرابلس؟ وقد جرت العادة أن من يستدعى للجنة الثورية يكون  متهما بجريمة معينة ، أو فعلا محددا يسال عنه ، ويضرب ويهان ويذكر من معه حتى يقر على نفسه وعن غيره .  

[ سبب العزل من الوظيفة ]

     وقد أجري معي تحقيق كامل [ في مثابة اللجنة الثورية بطرابلس ] عن عملي وحياتي وعائلتي وأملاكي ، ولكنهم لم يجدوا علي مأخذا ، كل هذه الأمور بدأت استعرضها بعد رجوعي من الحج عام 1980 ، وأفكر فيها مليئا ، وقد هداني تفكيري حول هذا الأمر إلى أن سبب إقالتي من البلدية هو عطاء الطريق الدائري ذلك لأنني أصررت على تطبيق القانون ولم استجب إلى أهواء ( . .. ) ومن معه خوفا من ضياع أموال على الخزانة العامة ، وقد تذكرت ما سمعته في إحدى المرات من أن شركة بلفنجر يساهم فيها برونوا كرايسكي مستشار النمسا ، وهو صديق للرائد عبد السلام جلود ، فعندما علموا بأن رئيس لجنة العطاءات يصر على إعطاء المشروع للشركة التي قدمت أقل الأسعار ، ضغطوا على الجهاز الإداري وابتدعوا عملية إحالتي للتحقيق بدون تهمة حتى يخلوا لهم الجو وإسناد المشروع لشركة بلفنجر بالمخالفة للائحة العطاءات . ولن يتم لهم ذلك إلا بإحالة المسؤول المتمسك بالقانون [ طالما لم تنفع معه وسيلة أخرى كالارتشاء مثلا أو الانضمام إلى المتمسكين بإسناد المشروع إلى شركة بلفنجر مع ارتفاع أسعارها ] وبذلك تمت إحالتي للخدمة العامة ، وحتى تعطى للصورة أبعادها ، وتحبك العملية بدرجة يصعب فهمها على المواطن العادي ، وضعت في شكل تطهير إداري شمل العديد من الموظفين الأبرياء بلغ عددهم ثمانين لا علم لهم بشيء ، فشوهوني دون أن أفعل ما يوجب ذلك ، وشوهوا معي هؤلاء الأبرياء الذين ذهب بعضهم إلى وظائف أخرى وتقلد آخرون وظائف جديدة ورجع بعضهم إلى البلدية فيما بعد ، وبقي الموضوع حديثا يذكر ، ولم أتناول هذا التفسير في مذكراتي سابقا ولكني ذكرته هنا للشهادة فقط ولأنها الحقيقة التي توصلت إليها فيما بعد ، والحمد لله رب العالمين .

[ بداية العلاقة مع السجل العقاري ]

      بقيت دون عمل ، وتحت تصرف الخدمة العامة فترة ثمانية شهور ، شغلت فيها وقتي بقضاء بعض الأمور والقراءة ، إلى أن كلفت بوظيفة مستشار قانون بأمانة اللجنة الشعبية العامة للمرافق ، وكان ذلك سنة 1981 م ، وإلى غاية فبراير سنة 1982 م ، حيث كلفت بوظيفة مدير إدارة التسجيل العقاري والتوثيق بطرابلس وذلك بناء على ترشيح من الأخ محمد حجازي أمين المرافق ، حيث كانت مصلحة التسجيل العقاري تابعة لأمانة المرافق ، وهكذا بدأت قصتي مع التسجيل العقاري إلى أن تم حرقه في 17 / 11 / 1985 م ، تلك الواقعة التي خصصت هذه الوريقات لأجلها ، وأنا موجود حاليا في المغرب ، وأحكي فيها بتجرد ما حدث تفصيلا دون خوف أو وجل ، ولا أهدف إلا إلى ذكر الحقيقة كما عايشتها ، راجيا من الله المغفرة والرضوان ، إنه سميع مجيب ، وبالإجابة جدير وعلى الله الاتكال ( ص 16 ) . بعد أن استلمت وظيفتي في إدارة التسجيل العقاري بطرابلس ، أحسست بجفوة من رئيس المصلحة الذي لم يفتح لي صدره ، ولم ينر لي الطريق ، ولم يعلمني بأية أمور تفيدني في ممارسة العمل ، ولا عجب فهو غير مؤهل وتقلد وظيفته بالخبرة ، وعندما يعين موظف مؤهل معه يشعر بأنه سيفقد وظيفته في يوم ما نظرا لشعوره بالنقص ، وهذا ليس هدفي ، فأنا والحمد لله لا أسعى للوظائف ولكنها تسعى إلي ، ومع ذلك صبرت عليه ، ولم أبادله العداء ، بل كنت أحترمه وأقدره ، وأسأله حتى في الأمور القانونية التي لا يفقه فيها أحيانا ، ولكنه أسبق مني في هذه الأعمال على كل حال ، وعندما يجيبني عن أسئلتي تكون إجابته بأقل ما يمكن من المعلومات ، على عكس نائبه ومساعده الحاج علي القزلة الذي كان أكثر دراية وخبرة وإلماما بجميع المشاكل ، ولديه معلومات ، فكنت ألجأ إليه كثيرا لمعرفة السوابق واستخلاص الحلول للمشاكل التي تواجهني في العمل وقلما كنت ألجأ إلى رئيس المصلحة ( . . . . . ) .   

[ طريقة إدارية لتجنب الأخطاء لمن يتولى وظيفة جديدة ]

     أول مشكلة صادفتني في العمل ، هي عدم إلمامي بعمل التسجيل العقاري بالرغم من أنني خريج كلية الحقوق ، لأن عمل التسجيل معقد ويختلط فيه القانون بالواقع ، فكل عمله قانوني محض وإجراءاته إدارية جد معقدة ، وهو ليس بالسهل ويتناول أهم ما يتعلق به الإنسان في الحياة ، وهو المال أي العقار ، علما بأنه لا يوجد في كلية الحقوق " القانون حاليا " دراسة كافية ضمن المنهج المقرر لأعمال التسجيل العقاري ، كل ما قمت بدراسته في السنة الثالثة هو تسجيل عقد البيع وشهره [ تسجيله ] إذا تعلق بعقار ، وذلك ضمن كتاب مخصص لدراسة عقد البيع في القانون الليبي للدكتور محمد عمران ، وهذا ليس كافيا لفهم طبيعة عمل مثل هذا المرفق المهم وكان الأجدر بكلية القانون إدراج مادة كاملة لهذا المجال ضمن المناهج المقررة مثلما يتم في المغرب الشقيق . لهذا فكرت في طريقة تعينني على فهم أعمال التسجيل العقاري قبل الوقوع في الخطأ ، لأنه من السهل على الحذاق من الموظفين تمرير بعض الأعمال التي بها أخطاء كلما تغير المسؤول عن المرفق ، حيث يكون المسؤول السابق قد أوقف بعض المعاملات لوجود خطأ فيها ، أو نقص في إجراءاتها ، الأمر الذي يتعذر على أصحاب الشأن استيفاؤه ، غير أنهم يظلون على اتصال بالموظفين لمعرفة الإجراء النهائي لمعاملاتهم ، وعندما يسمعون بتكليف مسؤول جديد يحاولون تمرير تلك المعاملات بأخطائها ، ويتعاطف معهم الموظف المختص بتقديم المعاملة للمسؤول الجديد دون بيان سبب إيقافها أو إعطائه سببا غير جوهري ، أو الإيعاز إليه بأن المسؤول السابق قد أوقفها لسبب شخصي ، فيقوم المسؤول الجديد بالتوقيع عليها وإجازتها ، كنوع من التحمس لإظهار مقدرته على أنه لا يتبع الروتين الممل ، وهكذا ، مما يسبب الوقوع في الخطأ . لذلك ، وحرصا مني على عدم الوقوع في ذلك ، فضلت الاستعانة بالمدير السابق الذي لم ينقل إلى وظيفة أخرى ، وطلبت من رئيس المصلحة الإبقاء عليه معي فوافق ، ويوم أقسمت اليمين القانونية قبل مباشرة الوظيفة ، أصدرت قرارا فوضته فيه التوقيع على جميع الإجراءات السابقة واللاحقة نيابة عني ، وقصدي من ذلك استمراره في عمله إلى أن ألم بأعمال التسجيل العقاري ، واجتمعت بالموظفين وطلبت منهم التعاون معي ومعه واعتباره مسؤولا كما لو لم يتم تعيين مدير جديد ، وبذلك كسبت الشخص والموظفين معا، وبدأت أدرس المعاملات وأتعلم منهم الإجراءات ، ولا أخجل حتى من الموظف الصغير عندما أسأله عن إجراء معين ، كل ذلك لكي أفهم أسلوب العمل وطريقته ، وقد ساعدني المدير السابق في الرد عن الاستفسارات العديدة التي أطرحها مع استخدام معلوماتي القانونية بطبيعة الحال وخبرتي السابقة في المجال الإداري . وسلكت هذا الإجراء مع رؤساء المكاتب التابعة لإدارتي وعددهم ستة موزعين على فروع البلدية : جنزور ، القربوللي ، بن غشير ، تاجوراء ، وطرابلس " الغزالة " إضافة إلى سوق الجمعة التي فتح فيما بعد بجهود بذلتها بمفردي .

[ تنظيم العمل في إدارة التسجيل العقاري والتوثيق بطرابلس ]

      ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى استطعت أن ألم إلماما كافيا بالعمل ، وأتضح لي أهمية المرفق وقيمته ، فهو جهاز حساس يتعلق بالعديد من الأعمال والإدارات والمصالح الأخرى ، فوظيفته الرئيسية شهر الملكية العقارية وضبطها في سجلات وفهارس وملفات ، وحفظ وثائقها ، إلى غير ذلك من أمور ، وهو جهاز توثيق التصرفات التي يكون محلها حقا عينيا عقاريا أصليا أو تبعيا ، وجميع الأعمال التي يقوم بها المواطن تحتاج إلى شهادات من السجل العقاري ، عند البناء أو الحصول على خريطة ، أو قرض ، أو عند التقدم لطلب سكن أو أرض من الدولة حيث يجب عليه ان يبرز شهادة عدم تملك من السجل العقاري كما أن أعمال نزع الملكية للمنفعة العامة التي تقوم بها الدولة أو البلديات تحتاج إلى أعمال ووثائق وتعاون السجل العقاري ، وكذلك المشاريع العامة ، إلى غير ذلك من الأمور . لذلك حرصت على إعادة معلوماتي القانونية السابقة التي تبخرت أو ضاعت من جراء عملي الإداري في البلدية ، فأحضرت جميع الكتب القانونية في مجال الملكية العقارية أو الحقوق العينية العقارية التي درستها في الكلية ، وكلما أجد سانحة أطالعها من جديد ، وإذا عرضت علي مشكلة أعود إليها ، وأذكر عندما استلمت الوظيفة نسيت التفريق بين الحقوق العينية الأصلية والتبعية ، رغم أنني درستها في السابق ، وبدأت في تنظيم الإدارة بتطبيق القرارات التنظيمية الجديدة التي صدرت لتنظيم إدارة التسجيل العقاري بطرابلس عن أمين المرافق سنة 1980 م ، فقمت بتنفيذها بالتعاون مع رئيس المصلحة وذلك بإعادة تنظيم المكاتب من جديد . ووجدت بعض الموظفين لم يسند لهم عمل لأنهم محالون من الجهاز المركزي للرقابة الإدارية ، وهم خريجو حقوق وشريعة ، ومع ذلك لم يكلفوا بأي عمل ، فأسندت إليهم أعمال التوثيق بقرار أصدرته لهم ثم قاموا بأداء اليمين القانونية وباشروا عملهم ، ووجدت بعضهم متغيبا عن عمله لمدة سبعة أشهر ويتقاضى مرتبه دون عمل ، فاستدعيتهم وكلفتهم بأعمال تتفق مع مستواهم وعينت رؤساء أقسام من خلال الموجودين بالإدارة ، وبدأ العمل ينتظم شيئا فشيئا كما قمت بصيانة المبنى الرئيسي الواقع بشارع الجمهورية عن طريق بلدية طرابلس حيث عاملني موظفو البلدية كما لو كنت معهم في السابق ، وساعدوني في العديد من الأمور ، وتحصلت على مساعدات من جهات أخرى لصالح الإدارة مثل سيارات ومكاتب وغيرها ، كل ذك من أجل إحياء هذه الإدارة الميتة . إلى جانب ذلك حاولت إصلاح الخرائط والمسطحات التالفة بالاستعانة بمصلحة التخطيط ، وقطعنا شوطا في ذلك ، وحاولت الاستعانة بمهندسين جدد ولكني لم أفلح ، وحتى المهندسون الذين كانوا مساحين في السجل العقاري وتم إيفادهم للدراسة بأمريكا لدراسة أعمال المساحة في السجل العقاري ؛ تم التفريط فيهم سابقا بمنحهم خلو طرف فالتحقوا بأعمال أخرى بالبلديات ، لأنهم عندما رجعوا كانوا يحملون أفكارا تشابه ما كان يحلم به ( . . . ) من تكوين ثروة عن طريق الشركات والمشاريع ، وبقاؤهم في السجل العقاري لا يكسبهم شيئا ، إضافة إلى المشاكل المتعددة في أعماله . ومع ذلك لم يتطرق إلي اليأس ، وكنت ألح على أمين عدل طرابلس وأمين اللجنة الشعبية بالبلدية للحصول على دعم للإدارة من أجل خلق فرص عمل وتشجيع الموظفين على الأداء ، والحقيقة أن معرفتي السابقة بالمسؤولين وشهرتي في البلدية ، وجرأتي وحماسي هي التي خدمتني في ذلك ، إضافة إلى الهدف الذي أنشده ، وهو تحقيق المصلحة العامة ، كما أنني وجدت في البداية بعض الخبرات الأجنبية في القانون كانت تؤدي دورا فعالا في العمل ، ولكن بدون تنظيم ، فقمت بإسناد أعمال مهمة إليها ، وعلى سبيل المثال وجدت شخصا مصريا له خبرة في أعمال الشهر بالإضافة إلى كونه خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة منذ عشرين سنة تقريبا ، وجدته مكلفا بأعمال تحضير الشهادات من واقع الملف العقاري ( نموذج 7 ) فكلفت موظفا عاديا بالمهمة وأسندت إلى الموظف المصري مهمة القيام بالدراسات والبحوث القانونية في أعمال الشهر العقاري وقد استفدت منه كثيرا ، ويدعى عادل عبد الرحيم عليم .

[ إنشاء مجلس إداري خاص بإدارة التسجيل العقاري بطرابلس ]

      أما عن المكاتب الفرعية التابعة للإدارة ، فقد اجتمعت بموظفيها ورؤسائها لحثهم على العمل من خلال القيام بزيارتهم بصورة دورية رغم بعد المسافة ، فمكتب القربوللي يبعد ستين كيلومترا عن طرابلس ، ومع ذلك أقوم بزيارته وتفقده وقد وضعت سنة حميدة على ما اعتقد ، وهي الاجتماع الشهري مع رؤساء المكاتب ورؤساء الأقسام ، وحددت لهم اليوم الأول من كل شهر ميلادي يحضرون فيه إلى مقر الإدارة لحضور الاجتماع ، وإذا صادف هذا اليوم عطلة فاليوم التالي وهكذا نقوم في هذه الاجتماعات بدراسة سير العمل ، واستعراض المشاكل التي تواجه الإدارة أو المكاتب أو الأقسام ، وبحث الطرق في كيفية التغلب عليها ، واستعراض المناشير أو القوانين أو القرارات ووضع السبل في كيفية تنفيذها ، ويتم إعداد محضر الاجتماع يدون فيه كل ذلك ، ويتم توقيعه من قبلي ( مدير الإدارة ) ومن قبل رئيس قسم الشؤون الإدارية . نقوم برفع صورة من محضر الاجتماع إلى رئيس مصلحة التسجيل العقاري والتوثيق ، وكذلك إلى أمين اللجنة الشعبية للعدل بالبلدية ، ولكن رئيس المصلحة لا يقوم بدراسة هذه المحاضر ، ولم يصدر منه أي تعليق عليها ، رغم أن بعضها تحمل استفسارات تستدعي الإجابة منه ، وفي بعض الأحيان أقوم بتوجيه أسئلة كتابية حول مشاكل تحدث في العمل للحصول منه على رد كتابي يكون سندا قانونيا للقيام بإجراء معين حولها ، ولكنه لم يرد ، ولا لوم عليه ففاقد الشيء لا يعطيه . أعود إلى اجتماعات رؤساء المكاتب ، لقد كونت خبرة منها ذلك لأنني حديث في العمل ، وكان فيهم من له عشرون سنة أو أكثر ، وبعضهم له تأهيل قانوني ، وبعضهم تكون عن طريق الخبرة العملية ، وبذلك كانت اراء المجلس ناضجة تجمع بين الخبرة والعلم ، وحققنا عدة حلول لمشاكل عديدة كانت تواجه عمل السجل العقاري ، منها مثلا تذليل الصعاب أمام شرط عدم التصرف ، وإلغاء العمل بشهادة عدم التملك التي كانت تتخذ ذريعة للحصول على سكن أو قطعة ارض من الدولة ، وهي شهادة غير حقيقية ولا تعبر عن الواقع ، لذلك قمنا في أوائل سنة 1985 م بإلغاء العمل بها ، ونجحت الفكرة ، لأننا نصدرها دون بحث في السجلات أو الفهارس ، بل اعتمادا على شهادة اللجنة الشعبية للمحلة (علم وخبر ) وإذا قمنا بالبحث فإن الفهارس غير مكتملة ، إذ ما جدوى منح شهادة يعلم مانحها أنها لا تطابق الحقيقة ، وقد استغلت من قبل بعض المواطنين للحصول على مساكن وأراض لا حق لهم فيها ، هذا ما أذكره من إجراءات قمت بها في هذه الفترة .

[ اختيار التوثيق العقاري موضوعا للدراسة العليا ]

      إلى جانب ما ذكرت من إجراءات ، وبمجرد استلامي العمل في هذه الإدارة أحسست بفراغ في الفترة المسائية ، فقد تعودت على العمل صباحا ومساء وفي الليل أحيانا عندما كنت في البلدية ، لذلك فكرت في الدراسة للحصول على مؤهل عال في مجال القانون ، ولكن المشكلة تكمن في أن كلية الحقوق تقع في بنغازي [ وهي الوحيدة آنذاك ] وتتطلب حضور طالب الدراسات العليا بما لا يقل عن 70% ، وفي ذلك صعوبة بالنسبة لي ، لذلك توجهت إلى كلية التربية قسم الدراسات الإسلامية ، وقدمت طلبا لإدارة الجامعة ، وترددت عليها مرارا ولم أجد أذنا صاغية ، إلى أن أشار علي أحد الزملاء بالذهاب إلى الأستاذ عبد الله الهوني هذا الرجل العظيم في أخلاقه ومعاملته ومعاشرته ، الطيب البشوش المبارك يستقبل كل إنسان ويشجعه على الدراسة حتى ولو كان تخصصه في مجال آخر لا يمكنه من الولوج في مجال الدراسات الإسلامية ، فهو يحب العلم والراغبين فيه من اجل ذلك تراه مأوى للطلاب ومرجعا لمن يرغبون في أية مساعدة ، جزاه الله كل خير وكثر من أمثاله .

    طلب مني تقديم ملف يتضمن الأوراق اللازمة للتسجيل بعد مقابلتي له ، ثم قبله فورا وشرعت في الدراسة خلال الفترة المسائية ، وحضور المحاضرات للحصول على دبلوم الدراسات العليا ، ومن تم اختيار موضوع لرسالة الماجستير ، وما أن أنهيت الفصل الأول بنجاح حتى بدأت أفكر في موضوع الرسالة ، فكان التسجيل العقاري مسيطرا على تفكيري ، شاغلا كل مشاعري ، لأنه عملي الذي تخوفت منه في البداية ، وترددت في قبوله أول الأمر ، ولكنني فيما بعد عشقته إن صح التعبير وإذا أحب المرء عمله أخلص له ، فيجب من الناحية الإدارية تحبيب العمل للموظف ، فإذا أحب عمله أخلص وتفانى فيه ، وطوره أو عمل على تطويره ، ولكن المشكلة أن كلية التربية لا يجوز أن تقدم لها رسالة تتضمن موضوعا قانونيا فهي ليست كلية حقوق ، كما أنني لا يمكن أن أقوم بإعداد دراسة إسلامية محضة لأنها سوف تبعدني عن مجالي الأول وهو القانون رغم اهتمامي بالشريعة الإسلامية . لذلك وجب الالتجاء إلى الدراسة المقارنة بين الشريعة والقانون ، ولكن الموضوع واختياره يحتاج إلى بحث ، فهل أدرس الملكية العقارية ؟ أو النظريات التي طرحت حولها ؟ إن الخوض في تلك الأمور كان صعبا خاصة في تلك الفترة ، إضافة إلى ندرة الدراسات والكتابة في هذا المجال ، لذلك فكرت في إعداد دراسة حول التوثيق ، فهو عملية مهمة في السجل العقاري ، وهو النظام الذي كان سائدا منذ بداية الدولة الإسلامية الأولى ، وقبل حلول التنظيمات الحديثة في إثبات الملكية العقارية وغيرها من التصرفات . ومن ناحية أخرى فالسجل العقاري يحتوي على وثائق مهمة يمكن أن تعينني على الدراسة ، إضافة إلى أن التوثيق عملية قانونية نظمت بالعديد من التشريعات التي صدرت منذ عهد الدولة العثمانية والعهد الاستعماري الإيطالي ثم البريطاني وبعد الاستقلال  وبذلك يكون موضوعا مهما للدراسة المقارنة بين الشريعة والقانون ، كما أنه موضوع بكر لا أعتقد وجود دراسات حوله بكيفية جديدة ، وإنما توجد العديد من المؤلفات حول التوثيق والعقود ، وزاد من ترسيخ الفكرة ما أعثر عليه بين الحين والآخر من وثائق قيمة في الملفات العقارية القديمة التي تم تحقيق ملكيتها منذ السنوات الأولى لإنشاء السجل العقاري بعد سنة 1913 م .

    فعلى سبيل المثال هناك وثيقة نسخت عن الأصل الذي كتب في القرن الثاني عشر الهجري ، وهو يتعلق بوقفيات قام بها أحمد باشا القرمالي وهي أربع حجج وقف لبعض عقاراته على أبنائه ، وهذه الوثيقة يمكن أن تكون موضوع دراسة بمفردها ، نظرا لأنها تضم العديد من فقهاء وعلماء مدينة طرابلس في ذلك الوقت ، مثال المكني والشيخ ابن مقيل وغيرهم ، ووثيقة خاصة بابنة الشيخ محمد كامل بن مصطفي مفتي طرابلس الحنفي ، كتبها العلامة الشيخ عبد الرحمن الأخضري البوصيري زيادة على الوثائق الإيطالية والتركية، وعثرت أيضا على وثائق مكتوبة باللغة العبرية ، هذه الوثائق هي التي كانت سببا في اختيار موضوع البحث والمضي في دراسته ، على أن تكون هذه الوثائق أو بعضها ملاحق للدراسة أو مصادر لها . عندما أنهيت دبلوم الدراسات العليا بعد اجتياز الامتحانين المقررين لفصلي الدراسة ، فصل الربيع وفصل الخريف بتقدير جيد جدا ، ذهبت للأستاذ عبد الله الهوني فرحب بي كعادته ، وسجلت لديه موضوع الرسالة ، وهو : ( التوثيق العقاري في ليبيا وأثره في استقرار الملكية دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون ) واختار لي الأستاذ الدكتور السيد أحمد خليل مشرفا من الناحية الشرعية والدكتور خليفة القاضي مدير الإدارة العامة للقانون بوزارة العدل مشرفا عن الجانب القانوني من الدراسة ، وبدأت في البحث والاطلاع على المصادر ، والتردد على المكتبات وشراء الكتب ، وما إليها من شقاء وعناء البحث العلمي ، إضافة إلى العمل ومشاكله . لم أتفرغ للدراسة مثلما فعل غيري من الموظفين ، بل كنت أقوم بعملي في إدارة السجل العقاري بطرابلس بنفس الروح التي بدأت بها ، والحرص على تطوير الإدارة وأسلوب العمل ، وحل المشاكل التي ازدادت ، وذلك بالنظر إلى التظلمات العديدة التي قدمت ضد تطبيق القانون رقم 4 لسنة 1978 م كما أسلفت ، حيث وجدت العديد من التظلمات مركونة لم يفصل فيها بالرغم من تشكيل اللجنة المختصة بذلك ، فلم يجرؤ المدير السابق على عقد اجتماعات اللجنة للفصل فيها تفاديا لمشاكلها ، وعندما أخبرت عن ذلك فكرت مليا فيها ، وقررت بيني وبين نفسي الهروب منها ، لأنني أعلم مسبقا بأنها سوف تجر علي مشاكل لا حصر لها ، وخاصة وأنني أخذت درسا من البلدية لن أنساه .

[ الفصل في التظلمات من تطبيق مقولة البيت لساكنه ]

   اقترحت على رئيس المصلحة تعديل قرار تشكيل اللجان التي تقوم بالفصل في التظلمات ، بحيث تكون اللجنة برئاسة قاض ينتدب من المحاكم بدلا من مدير الإدارة أو رئيس المكتب ، وبررت ذلك بأن مدير الإدارة أو رئيس المكتب هو من يقوم بتسجيل المساكن لشاغليها وتمليكها لهم ، وفي نفس الوقت يقوم بالفصل في التظلمات التي تقدم ضد ذلك ، وإلغاء التسجيل الذي قام به ، أما إذا أسند أمر الفصل في التظلمات إلى قاض مستقل ، فعندها تكون الإدارة في وضع محايد إن لم تكن خصما تدافع عن قرارها ، ولكن رئيس المصلحة رفض الاقتراح بالرغم من سكوته عنه خلال الفترة السابقة ، فلم يطلب من المدير السابق التصدي للتظلمات التي قدمت منذ تشكيل اللجان ، وطلب مني مباشرة الاختصاص وفقا لنص اللائحة . لذلك شرعت لجنة الفصل في التظلمات المشكلة في إدارة التسجيل العقاري والتوثيق بطرابلس في عقد جلساتها العلنية ، للاستماع إلى المتظلم والمتظلم صده بعد إعلامهم بموعد الجلسة ، وبحضور المدافعين عنهم من وكلاء أو محامين ، ثم التصدي للفصل في التظلم ، وكانت اللجنة مشكلة برئاستي وعضوية رئيس قسم التسجيل العقاري ورئيس قسم المحفوظات العقارية وفقا لنص اللائحة ، وفي كل مكتب تابع للإدارة لجنة لها نفس الاختصاص بالعقارات التي تقع في نطاقها مشكلة من رئيس المكتب وعضوية اثنين من القانونيين أو من لهم خبرة طويلة ، وعندما بدأت اللجنة التي كنت ارأسها في الإدارة باشرت اللجان الأخرى أيضا في ممارسة الدور المنوط بها . واجهتني صعوبات كثيرة في عمل هذه اللجنة ، منها أن اختصاصها قضائي محض ، وذلك يستدعي إجراء تحقيقات للوصول إلى الأحكام أو القرائن التي يمكن الاستناد إليها للفصل في الموضوع ، ثانيا : لم يلزمها القرار بإتباع الإجراءات المنصوص عليها في قانون المرافعات ، ولكننا اجتهدنا في الالتزام بأحكام الإعلان وعلنية الجلسات والتبليغ ، ثالثا : لم تكن هناك توضيحات كاملة أو إجراءات مقررة من قبل المصلحة تستهدي بها اللجان المشكلة في مختلف الإدارات والمكاتب ، كما أنه لا توجد سوابق أو اجتهادات منشورة مثل الكتب أو المؤلفات أو الشروح لعمل هذه اللجان ، أو اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي ، ورغم أن أحد أعضاء اللجنة سبق له ممارسة العمل في القضاء ، ومع ذلك شعرنا بالحاجة إلى مزيد من التوضيح ، فقررنا التريث قبل الفصل في التظلمات التي قمنا بنظرها .

[ الاستيلاء على المساكن من ذوي النفوذ ]

والصعوبة الأخرى التي واجهتني ، هي أن بعض من تملك تلك المساكن كانوا من كبار الضباط ، أو المسؤولين ، أو الثوريين المتشنجين الذين يلبسون رداء الثورة للوصول إلى تحقيق أغراضهم عن طريق الشعارات والهتاف وبالرغم من ذلك ، فإن موضوع الحقوق لا تشفع فيه وظيفة ، ولا جاه ، ولا منصب ، ولا منصب ، وليس لدي أي اعتبار لمثل هذه الأشياء ، فانا لست ممن يخاف السلطة التي يدعيها بعض الناس وهي مصطنعة ، لذلك كان شعاري الذي فرضته على اللجنة هو إتباع الحق دون خوف ولا وجل ، فالنافع والضار هو الله سبحانه وتعالى { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } وعلى ذلك نقوم بدراسة التظلمات بشيء من الحيطة والحذر ، ونتحرى في دعاوى الناس ثم نفصل في الموضوع عن طريق القانون ووفقا للنصوص ، وقد تكون هناك أخطاء وقعنا فيها ، فالكمال لله ، ولكنني شخصيا استطعت أن ألم بشيء مما يعانيه القاضي في المحاكم ، [ وكانت هذه اللجان هي التجربة القضائية الأولى لي ] . واجهت مصاعب أخرى من الناس الذين رفضنا تظلمهم لأنه مبني على غير أساس سليم ، [ فأصبحنا محلا لنقدهم ] وقمنا بإلغاء ملكية بعض الناس الذين تملكوا المساكن طبقا لمقولة البيت لساكنه ، لأنه ثبت لدينا أن أصحابها أو أبناءهم أحق بها من الذين تحصلوا عليها بشكل أو بآخر وذلك وفقا للقانون ، وهذا النوع الأخير هو الغالب في قراراتنا ، لأن أكثر المساكن تم تخصيصها بطريقة غير قانونية ، وشاغلوا المساكن الذين تملكوها هم من ذوي النفوذ ، منهم الوزراء وكبار الضباط وكبار الثوريين اللذين يستطيعون أن يفعلوا ما يقولون إذا تمكنوا من ذلك ، ومع ذلك فقد قمنا في اللجنة بإلغاء ملكيتهم وإعادة الملكية لأصحابها .

    لم تكن لنا صلاحية تطبيق القرار بإخلاء المساكن التي تم إلغاء تمليكها ، فهي تخرج عن اختصاص التسجيل العقاري ويعود ذلك إلى الجهات المسؤولة عن الإسكان . وبذلك استمر تذمر أصحاب النفوذ في المساكن التي تملكوها دون وجه حق ، وبقوا ينتظرون الساعة التي يتخلصون فيها من المدير المتشدد الذي – حسب رأيهم – يعارض توجهات ثورة الفاتح من سبتمبر التي ترفع شعار البيت لساكنه ، وهو يلغي التمليك ويرجع العقار لمالكه ، وبعضهم قدم شكاوى ضدي، استدعيت مرة إلى أحد المعسكرات لمقابلة ضابط كبير ، لأن ضابطا من رفاقه تقدم بشكوى مفادها أن السجل العقاري قد ألغى ملكية سكنه عن طريق لجنة التظلمات ، بعد حضوري لمقر المعسكر ، وجدت الضابط المشتكي في انتظاري أمام الضابط وعندما شرحت لهم الحقيقة ، وبينت لهم القانون ، وأنه وقع استدعاء الضابط لسماع أقواله ودفاعه مرتين ، فرفض الحضور ، وحيث كان القانون في صف رب البيت عاد له ، وما عليه إلا اللجوء للقضاء . وبعض ذوي النفوذ حاول استفزازي بشكل أو بآخر ، ضابط شرطة كبير تملك مسكنا عائدا لوقف ذري ، وطبقا لقانون رقم 16 لسنة 1972 بشأن إلغاء الوقف على غير الخيرات ، يعود العقار الموقوف للواقف إذا كان حيا أو للمستحقين فيما بعد ، فتملكه هذا الضابط ، جاء صاحبه وهو شاب فقير فقدم تظلما ضده ، مفاده أنه مستحق للوقف ، وقد صرح والده بذلك وخصصه له في إقراره المقدم طبقا للقانون رقم 4 لسنة 1978 ، فبحثنا الأمر واتضح للجنة أحقيته في البيت ، فقمنا بإلغاء التمليك للضابط وأعدنا الملكية لصاحبها ، فشكا ذلك الضابط وبكى ، ولم يترك طريقا للوساطة إلا سلكها معي لإعادة الملكية له دون جدوى ، وأخيرا تمكن من أحد أبناء عمومتي بدعوى ارتكابه خطأ ، فقام بوضعه في الحبس الملحق بمركز الشرطة الذي يتولاه ، ولمدة ثلاثة أيام متوالية ، دون أن يقوم بسماع أقواله أو تدوين محضر بالخصوص ، أو توجيه تهمة له ، ورغم أنني أتردد على المركز للاطمئنان على الرجل مع أولاده الذين كانوا قصرا، غير أنني لم أجرؤ على أن أطلب منه الإفراج عليه ، مع علمي بأن حبسه غير قانوني طبقا لقانون الإجراءات الجنائية ، لأنه سينتهز الفرصة لمساومتي في المسكن ، وهذا ما لا أقبله . شاع خبر اللجنة التي أترأسها في البلاد ، وقيامها بإعادة البيوت لمالكيها ، وظهرت إشاعات حولها ، وبدأت الاتهامات من جهة والإشادة بهذا العمل من جهة أخرى ، الاتهامات من الذين يصطادون في الماء العكر ، ومن الذين تحصلوا على مساكن وأراض غيرهم وهم يعلمون بأن ملاكها أحق بها منهم ، لذلك فهم سينكشفون يوما ما إذا استمرت هذه اللجنة وغيرها في النظر في التظلمات ، فليل الظلم قصير ، والحق قديم وإن اختفى فلا بد له من الظهور ، أما الشرفاء والذين يخافون الله ويتقونه ، فهم يرون في هذا العمل انتصارا للحق وترسيخا للعدل الذي جاءت الثورة من أجله ، وأعلن عنه منذ البداية بأنها وسيلة لرفع الظلم وإقامة العدالة [ هذه كانت الشعارات المرفوعة بعد قيام ثورة 1969 ] . استدعيت نتيجة لذلك في مكتب الاتصال باللجان الثورية ، وهو الذي يوجه ويشرف على جميع اللجان الثورية في ليبيا ، والدخول إلى ذلك المكان صعب والخروج منه أكثر صعوبة ، ناقشني شخص واسمه علي الكيلاني على ما أذكر وهو شاب صغير يكبر ابني صلاح الدين بعدد من السنوات ، وركز كلامه على عملية التظلمات التي كثر الحديث عنها هذه الأيام ، بما يوحي بوجود ردة عن تطبيق مقولة البيت لساكنه [ وهي من الكتاب الأخضر ] فأجبته بتفسير واضح وجلي ، وحكيت له قصة القانون والمقولة ، وكيف كان هدف المقولة والمشرع وكيف تم تطبيق القانون ، موضحا الطريقة العشوائية التي نفذ بها تخصيص المساكن ، وعدم احترام الإجراءات القانونية ، الأمر الذي أدى إلى حصول التجاوزات ، فهي التي كانت محلا للتظلمات الحالية ، وهي التي أثارت هذه الضجة المفتعلة . قلت لعلي الكيلاني أيضا : إنني أشعر عندما أرد الحقوق إلى أصحابها بأني أقوم بخدمة بلادي وأخدم الثورة ، ذلك لأن الرجوع إلى الحق أفضل من التمادي في الباطل ، وطبقا للنصوص القانونية التي بين يدي ، لا يجوز للشخص أن يملك أكثر من مسكن ، ولا يملك مسكنا لشخص آخر طالما أنه ملك وحيد لصاحبه ، ولا يمكن تمليك مسكن أختاره صاحبه دون المساكن الأخرى التي يملكها ، وإذا شئتم عكس ذلك فعليكم بتغيير القانون ، وما علي سوى التنفيذ ، بعد هذه المناقشة خرجت من مكتب الاتصال دون الوصول إلى رأي قاطع ، فالشاب الذي ناقشني ليس له من العلم إلا ما علم فقط ، ووعد ببحث الأمر ومناقشة الموضوع في لقاء آخر .   

     استدعيت مرة أخرى من شخص مسؤول وثوري في جهاز الرقابة الإدارية وناقشني في الأمر ، فأوضحت له ذلك – كما سبق - ، وبالرغم من أنه قانوني غير أنه نسي دراسته لنظرية الحق والمبادئ الدستورية والحريات العامة وغيرها من النظريات التي درسها في كلية القانون ، فقط يطالب بالضرب بيد من حديد ضد الرجعية والبرجوازية ، وينادي بالثورة ضد كل شيء حتى الأخلاق والمبادئ والحقوق التي شرعها الله ، وهو في الحقيقة يحاول أن يطمس شرارة لجنة الفصل في التظلمات التي بدأت تعيد الحقوق إلى أصحابها خوفا من انتشار اللهيب ، فيصل إليه وهج النار ويتضح أنه يملك مسكنا ليس له حق فيه ، بل الأدهى من ذلك ، وهو الثوري المناضل المفكر الذي يكتب في الجرائد والمجلات عن الثورة والإصلاح ، وهو القانوني الذي يرأس جهاز وضعه الشعب لرقابة المسؤولين ، اتضح فيما بعد أنه يملك مسكنين من الدولة ، احتفظ بملكيتهما حتى بعد صدور القانون رقم 4 لسنة 1978 م ، وقد نبهنا لهذه المخالفة فقام بتسوية وضعه فتنازل عن أحدهما . هذه بعض الضغوط التي واجهتني من جراء عملي بإدارة التسجيل العقاري والتوثيق بطرابلس ، ونتيجة للعمل الذي نقوم به في لجنة التظلمات ، وبالطريقة التي ترضي الله والعباد ، أضف إلى ذلك أن بعض الصحف الثورية تناولت الموضوع واعتبرته ردة عن طريق الثورة ، وأن الأجهزة الرجعية هي التي تسير إدارات السجل العقاري والإسكان ، مع وجود بعض المسؤولين ممن يؤيد سير العمل بهذا الأسلوب الذي ينتهج طريق الحق وطبقا للقانون بصورة سليمة ، بل كان يشجعني على سلوك هذا السبيل ، وهدفه من ذلك المصلحة العامة فقط ، ومن هؤلاء الشاب المهندس محمد عبيد الشكري الذي اعتبره مواطنا صالحا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ، وكان محبا لشعبه ( ص 26 ) وبلاده ، ومحبا للخير نصيرا للفقراء ، سالكا سبيل الحق ، لا يخشى في ذلك لومة لائم ، كنت أشكو إليه مشاكل العمل والمصاعب التي تواجهني في ذلك ، فكان يذلل أمامي كل الصعاب ويحثني على فعل الخير ، بارك الله فيه وفي أمثاله من الشرفاء .

 

لعملية حرق السجلات العقارية

يتبع في الحلقة الرابعة إن شاء الله
[ التمهيد لعملية حرق السجلات العقارية