موقــــــــع
    الدكتور جمعة محمود الزريقي


clavier arabe clavier arabe kijd clavier arabe kjd99 clavier arabe عدد الزوار

قصة حرق التسجيل العقاري سنة 1985

       كتبتها سنة 1987 عندما كنت مقيما في مدينة سلا بالمغرب الشقيق ، وأنقلها الآن كما هي دون زيادة أو نقص اللهم إلا تصحيح بعض الأخطاء أو توضيح بعض الأمور في هامش الصفحة .

الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

الحلقة الخامسة [ حانت ساعة حرق السجل العقاري ]

      مر أسبوع وأنا على هذا الحال ، وفي نهاية الأسبوع ، أي يوم الخميس ذهبت صحبة عائلتي إلى مصراتة لزيارة أختي هناك ، وقضاء الخميس مساء والجمعة ثم العودة إلى طرابلس ، وهناك علمت بوفاة والدة أحد الأصدقاء في مدينة مصراتة وهو الأخ رمضان قنيدي ، فذهبت مع والدتي لتقديم واجب العزاء للأسرة وهذا اليوم يحمل تاريخا أعرفه جيدا ، فهو يوم 14 / 11 / 1985 م بعد تقديم العزاء رجعت إلى الدافنية مقر إقامة أصهاري ، عندها علمت بأن سيارة شرطة حضرت للبحث عني ، وكان معهم أحد أبناء عمومتي من ازريق ، فاستغربت الأمر ، وذهبت إلى قرية ازريق وتحديدا بقرب مصنع التونة المشهور بالتنارة بقصد الاستراحة قرب شاطئ البحر.

     هناك وجدت شخصا آخر قال لي : عليك بالاتصال بضابط غفر مدينة مصراتة على رقم هاتف أعطاه لي ، فتوجهت إلى أقرب مسكن في القرية ، واتصلت من هناك بضابط الغفر الذي أفادني بأنه يجب علي الاتصال بالأستاذ مفتاح كعيبة أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل في طرابلس ، فاتصلت به في منزله بطرابلس ، فقال لي : هل تذكر المذكرة التي قمنا بإعدادها حول فوائد السجل العقاري والمضار التي تحدث من جراء حرقه،فقلت بلى ، فقال لي : أنا لم أجدها في الأمانة ( الوزارة ) ! ! فهل لديك صورة منها ؟ فقلت : لا بد أن تكون لدي صورة في الإدارة ، ولكن ما الأمر ؟ ، فقال لي : عادت الفكرة من جديد – بعد أن تناسيتها أنا شخصيا – وطلب مني الإسراع في إحضار الصورة إليه ، فاتفقنا على أن أعود لطرابلس وأزوره مساء يوم الجمعة ،أي في اليوم التالي نظرا لتأخر الوقت وطول المسافة فأنا بازريق بمصراتة وهو في طرابلس . ولكن كيف الوصول إلى هذه الأوراق في يوم الجمعة والإدارة مقفلة في هذا اليوم ، اتصلت من مصراتة بالأخ ميلود القديري رئيس قسم الشؤون الإدارية بالإدارة ، وطلبت منه انتظاري أمام الإدارة مساء يوم الجمعة ، وكذلك اتصلت بأحد العاملين لمساعدته في حالة عدم وجود الشخص المكلف بالحراسة، وكان الأمر كذلك، غادرت الدافنية ( مصراتة ) بعد صلاة الجمعة قاطعا الإجازة صحبة أسرتي ، وقفلت راجعا إلى طرابلس ورأسا إلى شارع الجمهورية حيث مقر الإدارة ، فوجدت الأخوين اللذين كلفتهم بالحضور في انتظاري ، وفتحنا الإدارة ، ودخلت إلى مكتبي وأخذت في البحث عن المذكرة المطلوبة فعثرت على صورة منها ، فأخذتها وقفلت راجعا إلى مقر سكناي مع أسرتي ، لأستعد للذهاب إلى بيت الأستاذ مفتاح .

     استرحت قليلا في بيتي ، وبعد صلاة المغرب توجهت إلى الأستاذ مفتاح كعيبة فوجدته في انتظاري، وهو يقوم بإجراء الاتصالات مع العزيزية لاستدعاء الفيتوري الطاهر رئيس المصلحة حيث يقطن هناك ، ولم تفلح المساعي في الوصول إليه هاتفيا ، كان الأستاذ مفتاح في حالة تذمر ويشكو من الظروف التي أحضرته إلى ذلك الموقع ، فهو إلى جانب المساءلة التي كانت قائمة للجنة الشعبية العامة آنذاك زاده موضوع حرق السجل العقاري ، وقد علمت منه تصميم قوى الثورة على عملية الحرق مهما كلف ذلك من أمر ، واستدعائي في هذه العجالة هو محاولة لتقديم مذكرة جديدة ، واقتراحات أخرى لعلها تفلح في إبعاد لهيب النار عن تلك المستندات .

[ لماذا تصر قوى الثورة على حرق السجل العقاري ]

      تدارسنا أمر الحرق واستعرضنا المذكرة الأولى التي تبين المضار التي تنجم عن حرق السجل العقاري ، والتي لخصتها فيما سبق ، ثم استعرضنا الأسباب التي من أجلها تصر قوى الثورة على حرق السجل ، فاتضح أنها ترمي إلى قطع خط الرجعة على الليبيين المعارضين للنظام الموجودين في الخارج أو في الداخل ،ذلك أنهم سوف يتقدمون في يوم من الأيام للمطالبة بأملاكهم العقارية التي أخذت منهم وملكت لغيرهم ، ومن الطبيعي أن يستندوا في تلك المطالبة أو المخاصمة إلى السجلات العقارية التي توضح بصورة تفصيلية قصة العقار بالكامل من بدء تسجيله أول مرة ، ثم الانتقالات والتصرفات التي تمت عليه ، أو الحقوق التي تم ترتيبها على العقار ، وبالتالي فإن حرق السجل العقاري يؤدي إلى إعدام تلك البيانات ومن ثم قطع الطريق على المطالبين بحقوقهم العقارية ، أو على الأقل لا يجدون جهة رسمية تمنحهم سندات تمكنهم من تأسيس دعوى المطالبة عليها.

      إضافة إلى هذا السبب الواضح ، هناك أسباب أخرى خفية ، منها : إنهاء الوسيلة التي يتذرع بها الملاك للمطالبة ، أو للطعن في قرارات التمليك التي تمت في السابق ، لأن خطرها بدأ يتزايد باستمرار إذا ترك الأمر يسير على هذا النحو فقد يأتي يوما ترد فيه جميع الأملاك إلى أصحابها ، كما أن بعض الثوريين تمكنوا من الحصول على مساكن فاخرة ، أصحابها أحق بها منهم ، وهم لا يستحقونها من الناحية القانونية لأن بعضهم عزاب ، وهناك أصحاب أسر أحق بها منهم في السكن وأن أغلبهم يملكون مساكن في بلدانهم الأصلية ، ولكنهم يريدون طمس هذه الحقائق وحرق السجل العقاري يساعدهم في ذلك .

      وهذه الأسباب التي يستندون إليها تدل على الغباء في الواقع ، ذلك أن كل مالك لشبر من أرض يحتفظ بحجته وسنده ، أو على الأقل بشهادة عقارية تدل على أنه في تاريخ معين يملك ذلك الحق أو جزءا منه ، في أرض أو بناء ، ومنذ سنوات قبل واقعة الحرق والناس يترددون على مكاتب السجل العقاري للحصول على شهادات عقارية لأملاكهم التي ليست في حوزتهم أو حوزة أبنائهم ، كل ذلك للاطمئنان على عدم أيلولتها للدولة ، وللرجوع إلى هذه المستندات عند الحاجة ، وقد يوجد من بينهم من يوصف بالمعارضين في الداخل والخارج ، كما أن تلك الأسباب تدل على أن هؤلاء الثوريين ليسوا على ثقة من بقاء وضعهم على ما هو عليه ، فقد يأتي يوم يتغير فيه النظام ، وبالتالي يحاولون تحصين وضعهم وتثبيت ملكياتهم الجديدة حتى لا يقوم الملاك في يوم من الأيام بمحاولة استرجاعها منهم.

      لم أتناول الحديث مع الأستاذ مفتاح بهذه الصورة طبعا ، ولكن السبب الأول المعلن هو الذي كان مدار النقاش ، أما الأسباب الأخرى فكانت خفية فهي من تفسيري الخاص وإن كانت غير خافية على الأستاذ مفتاح أمين العدل ، لهذا السبب قمنا بوضع اقتراحات تتم بطريقة قانونية لقطع خط الرجعة على المعارضين ، وهذه الاقتراحات يشهد الله أنها مني ، فالأستاذ مفتاح خريج كلية الآداب ، وليسامحني الله فيها ولكنها أفضل من الحرق ، ويا ليتها نفذت لأننا لو أسندنا أمورنا للقانون الذي يطبق بواسطة قضاة محايدين ، فهما يكن القانون ظالما إذا طبق على الجميع فهو عادل ، وهدفي من ذلك إبعاد الحرق .

[ الاقتراحات البديلة لحرق السجل العقاري ]

     تتلخص الاقتراحات في الآتي : يتم حصر المعارضين ومعرفة أملاكهم العقارية ، ثم يقسموا إلى فئتين : الأملاك العقارية المحملة بالرهون لصالح الدولة أو المصارف ، يتم معالجة أمرهم بأن تطالبهم الدولة أو المصارف بسداد الديون المستحقة عليهم إذا حان أجلها ، وفي حالة عدم قيامهم بسداد المبالغ تقوم الدولة أو المصارف باتخاذ إجراءات الحجز والتنفيذ على هذه العقارات مقابل الديون ، وبيعها بالمزاد ، فإذا كانت بيوتا فيجب تمليكها للساكنين ، أما إذا كانت عقارات أخرى فتؤول ملكيتها للدولة ، أما الفئة الثانية ، وهم ملاك العقارات غير المدينين أي أنها غير محملة بالرهون ، فيتم إحالة أمرهم للقضاء لمعالجة أوضاعهم وفقا للتشريعات السارية ، هذه هي الاقتراحات التي تم التوصل إليها خلال النقاش مع الأستاذ مفتاح ، والقصد منها تفادي عملية حرق السجلات العقارية .

         تمت كتابة مسودة لهذه الاقتراحات مع الإشارة إلى أن مقولة البيت لساكنه مطبقة تطبيقا سليما وأن الإجراءات المقترحة كفيلة بالقضاء على مشاكل الإسكان وتقطع خط الرجعة على المعارضين ، واتفقنا على طباعتها مع المذكرة الأولى التي تبين الأضرار الناتجة عن الحرق ، وأن يكون اللقاء صباحا في مؤتمر الشعب العام حيث تجرى المساءلة للجنة الشعبية العامة ، غادرت منزل الأستاذ مفتاح كعيبة حوالي الساعة الواحد ليلا ، ورجعت وأنا منقبض الصدر ، لم أنم تلك الليلة مستريحـــا ، لقد سرحت في عملية الحرق وآثارهـــا ، ولكننـي أوكلـت الأمـــر للخالق { ولو شاء ربك ما فعلوه } .

     ذهبت يوم السبت 16/11/1985 إلى الإدارة في الصباح الباكر وأعطيت مسودة الاقتراحات للطباعة بعد مراجعتها مع إعادة كتابة المذكرة السابقة ، وبعد الفراغ منها راجعتها ، وأذكر أنه حضر إلي صديق عزيز وهو الأستاذ عمر التقاز فلاحظ شرودي في ذلك اليوم ، وكان حضوره ليس له من غرض إلا زيارتي فقط ومع ذلك كنت أكلمه أحيانا وأسرح أحيانا أخرى ، فسألني عن سبب هذا السرحان فلم أجبه عن السبب الحقيقي ، بل أوعزت ذلك إلى كثرة العمل ومشاكله وكنت في عجلة من أمري ، لأن أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل في انتظاري وما أن تم تجهيز المذكرات ومراجعتها في عجالة حتى قمت واستأذنت منه .

    فنزلنا إلى أسفل المبنى حيث لم أجد سيارة تنقلني إلى المصلحة فطلبت من الأخ عمر نقلي معه إلى مقرها القريب من شارع الجمهورية ، وفي الطريق ، كرر السؤال عن حالتي المضطربة وغير الطبيعية ، فأجبته بأنني خائف من القيام بحرق السجل العقاري ، وفسرت له سبب خوفي الذي لا يرجع إلى فقدان الوظيفة ، وإنما على المضار التي تعود على المواطنين والدولة الليبية من جراء ذلك لم يستغرق حديثنا وقتا طويلا حيث وصلنا إلى مقر المصلحة فأسرعت بالدخول إليها بعد توديع صديقي المذكور .

     وجدت رئيس المصلحة في الانتظار ، فانطلقنا من هناك في سيارته إلى مبنى مؤتمر الشعب العام ، وهو قصر الملك سابقا بطرابلس ، فوجدنا الأستاذ مفتاح في انتظارنا حيث جلسنا في إحدى القاعات واستعرضنا المذكرة السابقة التي تتضمن المضار المتوقع حدوثها جراء حرق السجلات العقارية ، والمذكرة التي قمنا بإعدادها ليلة البارحة بشأن الاقتراحات البديلة لعملية الحرق ، كان هذا اليوم هو السبت 16/11/1985 م ، تم إدخال بعض التعديلات على المذكرة التي تتضمن الاقتراحات دون تغيير في الجوهر ، وهي موجودة لدي في طرابلس الغرب حاليا وبعد ذلك قام الأستاذ مفتاح بوضعها في ظرف وأغلقه جيدا ، ووضع على جهة الإغلاق خطوطا تدل على الختم.

      بعدها رفع سماعة الهاتف واتصل بالأخ جاد الله عزوز الطلحي في مقر القيادة بباب العزيزية ، وتحدث معه حول مذكرة الاقتراحات بإيجاز دون تفصيل ، قائلا له : هاهي المذكرة في طريقها إليك ينقلها الأخ جمعة الزريقي مدير إدارة التسجيل العقاري بطرابلس ، وهو قادر على شرح الموضوع والرد على أية ملاحظات تبدونها بالخصوص ، وأرجو الاهتمام بالموضوع ، هذا ملخص ما دار في المكالمة التي كنا نسمعها من جانب واحد ، وإلحاح الأخ مفتاح يعني محاولة إبعاد عملية حرق السجلات العقارية ، أو تأخيرها على الأقل لحين الانتهاء من المساءلة التي كانت تجرى في ذلك اليوم ، وبنفس المحل الذي كنا فيه. أخذت المذكرة وانطلقت بسيارة رئيس المصلحة وتركت الأستاذين في مقر مؤتمر الشعب العام ، وذهبت إلى مقر القيادة بباب العزيزية حيث أتيتها من جهة المستشفى العسكري ، وضعت السيارة في المحطة القريبة ، وأخذت منها الحقيقة التي وضعت فيها المظروف المرسل ، وأتيت إلى حراس الباب قائلا لهم : معي رسالة من أمين العدل إلى الأستاذ جاد الله ، أدخلوني إلى الحجرة الخارجية ، وهناك أخذوا مني المظروف وقالوا لي : لماذا لم يختم ؟ فقلت لهم هكذا سلم لي والمطلوب تسيلمه للأخ جاد الله بصورة عاجلة ، وأريد مقابلته لأمر مهم ، فقالوا لي : الرسالة وصلت وعليك الذهاب ، فقلت لهم لا أذهب حتى تتصلوا بالأخ جاد الله عساه يحتاج إلى بيانات أو معلومات حول ما جاء في المذكرة ، هكذا قال أمين العدل ؟ ، فقام أحد الحراس بالاتصال بشخص لا أعلم من هو ؟ ثم قال لي : الرسالة وصلت وعليك الذهاب في حال سبيلك ، للأسف هم لا يعلمون ما بها ، ولو أنهم أتاحوا لي الفرصة لمقابلة جاد الله لأوضحت له الصورة ، ولكنهم يجهلون ما يدور في تلك الآونة ، ولم أدر إلى الآن هل وصلت تلك الرسالة أم لا ؟ على كل حال أدينا ما علينا والباقي على الله . رجعت إلى مقر عملي ، وأرسلت السيارة إلى رئيس المصلحة ليعود بها ، وبعد انتهاء الدوام عدت إلى بيتي ، وكل تفكيري في عملية الحرق، ولكنني لم أكن أتوقع حدوثها سريعا ، لذلك تناسيت الموضوع ولم يعد يخطر ببالي إلا لماما ، ولم أعد أذكر ماذا فعلت في ذلك المساء ، ولكنني أذكر جيدا أنني ذهبت إلى منزل جاري الذي أصيب في حادث لأعوده ، وهناك التقيت ببقية الجيران ، وبعد قضاء فترة من الوقت خرجت من مسكنه القريب من سكني بخطوات ، فوجدت رجلا ينتظرني أمام بيتي ، فعرفت الرجل دون معرفة اسمه ، لأنه يتردد علي لحل مشاكله منذ أن كنت في البلدية ، وهو من النوع الذي يلصق بالإنسان بمناسبة أو بدون مناسبة ، سلمت عليه وقلت له : تفضل ماذا تريد ؟ ونحن نقف أمام البيت ، فقال لي : إنه لديه ورشة مقامة على قطعة أرض وهي مسجلة في السجل العقاري ، قام صاحبها بهبتها لأبنه ، وأريد أن أطعن في ذلك ، قلت له : إن مساكن الناس مخصصة للراحة وكان الواجب يقتضي أن تحضر إلى مكتبي ، غدا تعال بعون الله ، وقدم ما تشاء من طعون ، سألني ذلك الملحاح كيف أعمل الطعن ؟ قلت له : كيف أدلك ونحن نقف في الظلام ! تعال غدا وسأريك كيف تقدمه .

[ وصول بعض أفراد اللجنة الثورية بطرابلس ]

      ونحن في الحديث المذكور وقفت سيارة بيجو 504 على نحو منا ، لم ينزل منها أحد ، لم أعرف راكبيها لبعد المسافة ، توقف شخص آخر لديه مشكلة ، وما أكثر الناس الذين يترددون على المسؤولين في مساكنهم بمجرد أن يعرف العنوان وهي عادة قبيحة سامح الله من يقوم بها ، رغم أن مكتبي مفتوح دائما لكل من حضر ، ومع ذلك أعاني كثيرا من هذه الظاهرة ، أنهينا الحديث بضرورة حضور ذلك الرجل غدا ، فسلم ثم ركب سيارته وانطلق ، عندها تقدم الزوار الآخرون فالقوا السلام علي ، نظرت من نافدة السيارة لأعرف هؤلاء ؟ ، فإذا بهم ثلاثة شباب لم أعرف إلا أحدهم ، وهو علي الرابطي المسؤول الأول في اللجنة الثورية بطرابلس ، عرفته لأنه حقق معي كما قام بحراستي في مقر اللجنة عندما قاموا بتوقيفي لديهم عام 1980 في القصة التي ذكرتها فيما سبق عندما كنت مسؤولا في بلدية طرابلس ’ قلت لهم : تفضلوا ؟ ، فقالوا : نريدك في مشكلة بسيطة ، فقلت لهم : تفضلوا في المربوعة ( بيت الضيافة ) فقالوا : نحن في عجلة من أمرنا فقلت للأخ علي : ما هي المشكلة ؟ ، فقال : خيرا إن شاء الله ، فقلت له : إنني لا أتوقع منك خيرا في الواقع ، قلت له ذلك لأنني أعرفه جيدا وحضوره إلى إما لاعتقالي أو تصفيتي أو لشيء يشابه ذلك ، فما الذي أتوقعه منه ؟ ، فقال لي : لدينا مشكلة ونريد الاستعانة بك ، ولا تخف من شيء والأمر لك إما أن تدخل وتغيير ثيابك وتحضر إلينا بسيارتك ، وإما أن تذهب معنا ونحن نعيدك فيما بعد ، كنت أرتدي ملابس ليبية مع نعل خفيف ، فكرت في تغيير الثياب واللحاق بهم ، ولكن ماذا أقول لوالدتي وزوجتي عندما يسألانني عن سبب ذلك إذا قلت لهم بأنني ذاهب إلى اللجنة الثورية بطرابلس لأنهم يريدونني ، فسوف يصيبهم الهلع والخوف لأنهم على علم بما حصل لي سابق ، وقد قاست والدتي ما قاست بسبب ذلك ، لأنها كانت تشك في خروجي منهم حيا أو بدون تهمة يوجهونها لي.

     لذلك قررت الذهاب معهم ، ومهما تأخرت فأهلي مطمئنون لاعتقادهم أنني في مسكن جاري رحومة المريض ، ركبت معهم السيارة وانطلقنا ، في الطريق سألني أحد الشباب الذين مع مسؤول اللجنة الثورية بطرابلس علي الرابطي ، عما يريد الرجل الذي كان واقفا معي ؟ قلت له : لديه مشكلة في السجل العقاري لأنه يتخوف من أيلولة ملكيته لورشة لصالح ابن مالكها السابق ، فقال لي : إنك تعاني كثيرا من مشاكل التسجيل العقاري ، فقلت : نعم ، وضربت له بعض الأمثلة ، فقال لي : سنريحك من هذه المشاكل ، هنا قفز إلى ذهني موضوع الحرق ، وعلمت بأن الشر قادم لا محالة ، فسألت الجماعة : هل تريدون فعلتها ؟ أذكر أنني قلتها بالدارجة الليبية ( هل ستعملون له عملته ؟ ) فقالوا : نعم . .

[ دفاع الفرصة الأخيرة ]

      مرت برهة يسيرة من الصمت تعمدتها ، ثم قلت لهم : إنني أرى عكس ما ترون ، ورجائي الوحيد أن تتيحوا لي الفرصة لمدة ساعة على الأقل ، لأشرح لكم بعض المعلومات عن السجل العقاري ، ونتناقش في الموضوع ، بعدئذ لكم مطلق الحرية في فعل ما ترونه مناسبا من إجراء ، فقالوا لي : نحن موافقون على ذلك حطت بنا السيارة بالقرب من مبنى الإعلام الثوري في شارع الجمهورية خلف مبنى الرقابة الإدارية ، ونزلنا منها واتجهنا إلى الدور الثالث في نفس المبنى وفي الصالة القريبة من المصعد وجدنا منضدة حولها كراسي ، فأمروني بالجلوس بها وبدأ أعضاء اللجان الثورية يتجمعون حولي ، لا أعرفهم جميعا وإن كنت أشاهدهم في بعض المناسبات دون معرفة الأسماء سوى علي الرابطي ، كان أحدهم يدخن البايب وينادى عليه بالدكتور، وآخر ينادى عليه بالزنتاني ، وهناك ثلاث بنات مسلحات يمتشقن المسدسات وأحزمة الرصاص . بدأت حديثي عن السجل التجاري بالقيمة التاريخية والعلمية له ، وقدمت شرحا عن نشأته وفائدته ، وأوضحت المساوئ والمضار التي تنتج عن حرقه ، وفي كل ذلك أضرب لهم الأمثلة للتدليل على ما أقول ، وتناولت جميع النقاط التي كتبتها في المذكرة المرفوعة المشار إليها سابقا ، حول نتائج الحرق موضحا الاقتراحات التي قدمناها في هذا الصباح إلى القيادة ، وفي نفس الوقت بررت موقفي من الدفاع عن السجل العقاري ذلك بأنني قلت لهم : إنني لا أملك سوى سكن واحد مثل بقية المواطنين ، ولكن دفاعي عن السجل العقاري هو دفاع عن تاريخ المجتمع الليبي وثروته وماضيه ، لأنني أعلم قيمته الحقيقية ، فهو إلى جانب كونه ثروة قومية ، فهو ثروة علمية ، وقد قمت بتحضير درجة الماجستير بفضل وثائق السجل العقاري ، وكتبت بعض البحوث من خلالها ، وسألتهم : كيف يعقل أن نطالب في المؤتمرات الشعبية بإحضار الوثائق من إيطاليا وتركيا ونحن نقوم بحرق وثائقنا بأيدينا ؟ ! ! ، فعندما تسمع تلك الدول فلا تقوم بإعطائنا حتى صور منها .

[ اقتراحات جديدة لتفادي الحرق ]

     قدمت لهم بعد هذا الشرح اقتراحات أخرى لتفادي الحرق ، منها : إيقاف العمل بإدارة التسجيل العقاري في طرابلس ومكاتبها ، وجمع الملفات كلها ثم وضعها في السراي الحمراء ، وبدء تسجيل العقارات من جديد ، كل من يسكن في بيت نقوم بتسجيل الملكية لصالحه ، ولا نملكه أكثر من بيت واحد ، وبذلك يتم تنفيذ المقولة مع الحفاظ على الوثائق القديمة ، أجابوا بشان هذا الاقتراح بأن الرجعيين لن تصعب عليهم السراي الحمراء ، فيستطيعون الوصول إليها وإحضار الوثائق منها والمطالبة باستعداده عقاراتهم ، بعد حوالي ساعة أو أقل من الحوار لم تجد محاولاتي في إثنائهم عن تنفيذ غرضهم ، وقد لاحظت أن بعض الشباب يقوم بإحضار ( براميل ) الكيروسين وتجميعها قرب المصعد ، فعلمت أنهم عاقدون العزم على حرق السجل العقاري .

[ الشروع في تنفيذ عملية الحرق ]

     قلت في نفسي : إنني أنفخ في قربة مثقوبة ، أو كمن يكتب مقالا على الماء فالكلام يدخل من أحد الأذنين ليخرج من الأخرى ، أنهيت حديثي بقولي : إنني شرحت لكم ما فيه الكفاية ، وأعتقد بأن الحرق في غير صالح المجتمع الليبي ولكني أرضيت ضميري فإن شئتم الحرق فلكم ذلك ، اللهم فاشهد ! ، لم يعلق أحد على كلامي الأخير وطلبوا مني الذهاب معهم إلى مقر الإدارة ، فقلت لهم إنها قريبة من هنا وكلكم تعرفونها ! ، فقالوا : اذهب معنا لعل الموظف الذي يقوم بالحراسة لا يعرفنا ، نسيت أن أذكر قبل أن أنهي المناقشة أنهم اقتنعوا بإحدى النقاط التي أثرتها معهم ، وهي ملكية الدول الأجنبية حيث طلبوا مني قائمة بها لحفظها بعيدا عن الحرق ، من أجل ذلك ألحوا عليّ في الذهاب معهم لكي أدلهم عليها فهم لا يعرفون مكانها أو أرقامها .

      ذهبت معهم وأنا أشعر بالخزي يتنزل علينا جميعا في تلك الليلة ، كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ليلا ، سرنا على الأقدام لقرب المسافة ، وما أن وصلنا لباب الإدارة لم نجد المكلف بالحراسة ، كان سعيد الحظ في تلك الليبية حيث لم يشهد ماساتها ، وهو أحد المساحين يدعى أبو عائشة الساري ، حمدت الله أولا ، وقلت لهم : الحارس غير موجود والباب مقفل ولا يوجد لدي مفتاح ، لكن الفتية كانوا متحمسين لفعل الشر ، فأقبلوا على باب جانبي يخفيه السور الذي كان يحيط بالمبنى فكسروه ومن ثم دخلوا إلى مبنى الإدارة ، كانت المحفوظات العقارية وهي تقع في الطابق الأول هي المكان الأول الذي اطلعوا عليه ( كانت تضم أكثر من 140000 كراسة تصديق عقاري ، وما يقارب من 50000 كراسة مؤقتة ، فقلت لهم من باب تهويل الأمر عليهم : إنكم لن تستطيعوا استكمالها في هذه الليلة ، قلت في نفسي أهول عليهم الأمر لعلهم يرتدعون ، ولكن دون جدوى . بدؤوا في البحث عن قائمة بملكية السفارات حتي يتم إبعادها عن الحرق ولم أجد نسخة منها في مكتبي ، وتوجد في مكتب الشؤون الإدارية ، وهو مقفل ولا يوجد معي مفتاحه ، فقاموا بكسر الباب ، عندها وجدنا قائمة بها، فأخذوها وانطلقوا إلى مكتب المحفوظات يبحثون عن تلك الكراسات الخاصة بالسفارات الأجنبية ، وأذكر أنه أثناء المناقشة التي أشرت إليها سابقا ، اقترحت عليهم عدم إحراق الكراسات الخاصة بأملاك الدولة ، والبلديات والمؤسسات العامة لعدم العلاقة بينها وبين الفكرة التي من أجلها سيحرق السجل العقاري ، لأنه لن يطالب أحد بها ، وكذلك أملاك الوقف ، غير أن هذا الاقتراح رفض أيضا ، وعندما دخلت معهم إلى المحفوظات حيث الملفات العقارية لإخراج الملفات الخاصة بالسفارات، أخذت أحد السلالم وصعدت إلى أول رف واستخرجت الملف العقاري الذي يحمل رقم – 1 – وهو خاص بمبنى السراي الحمراء ، وهي من أعظم المباني الأثرية في ليبيا ، وهي ملك للدولة الليبية ، فأحضرته لهم . .

[ حجة أخيرة لم تقنعهم عن الحرق ]

     قدمت لهم هذا الملف قائلا لهم : هذا الملف خاص بالسراي الحمراء ، ويوجد لدينا الكثير من هذه الملفات لمباني عامة ، مثل البلدية والضرائب ومبنى الولاية والمحاكم والطرق ، والميادين والحدائق ، والأسواق والقصور ، ومباني الإدارات والأوقاف فما هي الفائدة التي نجنيها من حرق هذا الملف ؟ هل سيأتي يوما يستطيع فيه أي مواطن أن يدعي ملكية السراي الحمراء ؟ ، قالوا : لا ، قلت إذا فإن حرق الملف لا جدوى منه ، ولهذا اقترح عليكم إمهالنا فترة زمنية نستخرج فيها الملفات التي تخص العقارات العامة ، ونترك الملفات الخاصة بالمواطنين ،ولكم حرية التصرف فيها ، قام على الرابطي بأخذ الملف مني وقال لي : هات ملف السراي الحمراء الذي يشغلك لنحفظه مع ملف السفارات حيث تم أخذها جميعا ، وعددها حوالي 23 ملف + ملف السراي الحمراء = 24 ملف ، وتركني وشأني [ أذكر الآن أنها تضم سفارات مصر وتونس والمغرب وأمريكا وبريطانيا وإيطاليا واليونان . . إلخ ] . شرع الجميع في حملة لنقل الملفات العقارية من المخزن ونقلها إلى الفناء الخارجي للإدارة ، فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وسلمت أمري إلى الله ، رغبت في مغادرة المبنى من باب مستودع الفناء الخارجي ، فوجدت شخصا مسلحا يقوم بحراسته منعي من الخروج ، وأينما أتنقل داخل مبني الإدارة الذي يضم عدة أدوار يصعد معي اثنان مسلحان لا يفارقانني ، رغبت في الاتصال بأسرتي لأن الوقت بدأ يتأخر ، فصعدت إلى مكتبي بالدور الثالث فدخلا معي لمراقبتي حتى أنهيت المكالمة التي طمأنت فيها زوجتي عني دون أن أخبرها بالواقعة ، ورأيت أنه من الأفضل لي البقاء بجانبهم ولن أعارضهم بعد ذلك ، وأن أي حركة منى ستؤدي إلى نهايتي لا محالة ، فإذا كانوا قادمين على حرق تاريخ بلد وأوراق عمرها أضعاف ضعاف عمرهم ، فكيف لا يقدرون على قتل شخصي الضعيف فمن أنا ؟  إنهم يعتبرون أن ما يقومون به واجبا ثوريا ، وكل من يقف في وجههم يقتضي الأمر إزاحته لأنه رجعي وبرجوازي ، ومع ذلك فإنني في تلك الليلة لا أعتقد بأني سأعود لبيتي وأرى أولادي مرة أخرى ، هكذا خيل إلي ، فأنا الوحيد الشاهد على ما يجري ، ولعلني كنت لسان التاريخ في تلك الليلة ، بعد أن أعلمت زوجتي بتأخري عن العودة للمنزل رغم إلحاحها عن السبب، لم أعلمها بشيء حيث كنت مراقبا – كما سلف – بقيت معهم أقوم أحيانا بجمع الأوراق التي تتناثر من الملفات وأرمي بها في ملفاتها لأن بعضها حجج وقفيات وهي لا تخلو من آية قرآنية أو حديث شريف ، وهم يدوسون عليها ، فهم لا يعرفون ما فيها لذا أقوم بجمعها ، وأحيانا أتظاهر بمساعدتهم في نقل بعض الكراسات، وطلب مني بعضهم الماء فأحضرته لهم ، وأبدى بعضهم رغبته في صنع الشاي فساعدته متظاهر بالمساعدة حتى لا ترتكب معي حماقة قد تؤدي إلى نهايتي .

     كنت أتفوه ببعض الكلمات منها مثلا : إن هذه الأوراق تاريخ بلد ، أو أنها ذات قيمة تاريخية عظيمة ، وأن عمرها يتجاوز سبعين سنة ، قرب مني أحد الشباب الثوريين وأنا أعرف والده فهو من غريان ، قلت له وهو يجمع الكراسات ويقذف بها خارج المبني تمهيدا للحرق : إن لوالدك ثلاثة عقارات في هذه الملفات ، فلم يرد علي ، هو صغير السن لا يعي ما يفعل ، لا يعلم أنه يساهم في أكبر جريمة تعرفها الإنسانية في هذا القرن ، لا يعلم بأنه يرتكب فعلا يقشعر منه جلد كل إنسان مؤمن بوطنه وكرامته ، وأنه يفعل المنكر الذي لا يرضاه الله ، أقول في نفسي : اللهم أهدي قومي فإنهم لا يعلمون .

     تزايد عدد الذين تنادوا من أعضاء اللجان الثورية للمشاركة في الحرب الدائرة بين البشر وجنود الورق ، كان العدد الذي حضر منهم في البداية سبعة أشخاص معهم ثلاث بنات في سن الزهور ، قاموا بالدخول إلى المحفوظات لسحب الملفات وإخراجها إلى فناء المبنى ، أما البنات فقد دخلن وشاركن في هذا العمل ، وتسلقن السلالم وقمن بتنزيل الملفات من أعلى الأدراج ، نهودهن تحتك بصدور الشباب وأصابعهن أيضا عندما يمددن مجموعة الملفات ، فيتلقفها الشباب بأيديهم ، كانوا يضحكون ويمرحون ويتبادلون النكات وكأنهم في عرس أو زفاف أحد أقربائهم ثم تكاثروا جماعات تلو جماعات يساهمون في القضاء على الملفات الأعداء .

     يا للعجب كيف يجرؤ أناس على ارتكاب المعاصي التي لا تغتفر ، فإن إساءة إنسان لأخيه قد تنتهي بطلب السماح منه ، وارتكاب المعاصي الأخرى قد يغفرها الله تعالى ، أما حرق وثائق تدل على ملكية الله ( الوقف ) وملكية عباده الضعفاء لطمس أثرها نهائيا ، فكيف لعاقل أن يرضاه ، إن بعض الملفات فيها عقارات موقوفة عائدة لبيت الله الحرام ، وبعضها للحرم النبوي الشريف ، وربما بعضها يعود إلى القدس الشريف ، وهناك عقارات موقوفة على الأضرحة والمساجد والمعاهد العلمية والدينية والزوايا ، هي وقف لله تعالى ، تصرف منافعها في وجوه البر المختلفة ، وإتلافها سيضيعها بلا شك . أخذت هذه الأفكار تدور في راسي تلك الليلة التي لا أنساها ما حييت ، فهي حدث مهم في حياتي وفي تاريخ الشعب الليبي أيضا ، استمر حضور أعضاء اللجان الثورية بشكل متزايد ، وبلغ عددهم نحو الخمسين فردا أو أكثر ، منهم ثلاث بنات – كما أسلفت – وكل منهم شمر عن ذراعية لنقل كراسات التصديق العقاري وكافة الملفات من المخزن ( المحفوظات العقارية ) إلى الفناء ، كل ذلك كان يتم في هدوء مدينة طرابلس التي كانت تغط في نوم عميق ، وبدون القيام بأية ضجة أو جلبة خارج المبنى ، بل تم غلق الشباك الموجود على جانبي الباب الخارجي حتى لا يتمكن أحد من المارة من رؤية ما يجري داخل المبنى ، ومع ذلك حضر مواطن حوالي الساعة الواحدة والنصف أو الثانية ، لا أعرفه ، ولكنه كان في ملابس النوم أعتقد أنه يقطن قريبا من مبنى الإدارة ، لفت نظره ما يحدث خلاف العادة ، فاستغرب الأمر وحضر إلى المبنى للاستطلاع أو لمعرفة ماذا يحدث ، الله أعلم بغرضه ، أطل برأسه من فتحات الشباك التي لم تغلق للاستفسار ، فأجابوه بالدخول لمعرفة ما يحدث ، وما أن دخل المبنى حتى أمروه بالبقاء وعدم الخروج دون أن يجيبوا على استفساره ، عارض في البداية ولكنه سلم أمره لله ، عندما رأيت ذلك أيقنت أنني لن أستطيع الخروج لأن الأمر يراودني في الرجوع إلى بيتي . أحضرت لذلك المواطن كوبا من الشاي وسألته : ما أحضرك ؟ فقال : رأيت الضجة فقلت استطلع الأمر وإذا بي رهينة لا أستطيع مغادرة المبنى ، فقلت له : حالي مثل حالك ، عليك بالصبر، والجميع يشتغل كخلية نحل دون كلل أو ملل بعضهم يستريح لإشعال سيجارة ، إن ذلك المخزن ( المحفوظات) يحتوي على أكثر من 140000 مائة وأربعين ألف كراسة تصديق ، وكل كراسة بحجم أربع ملفات عادية ، بعضها مليء بالأوراق والوثائق والحجج ، وبعضها جديد لا يوجد به سوى أوراق قليلة ، كما توجد به كراسات مؤقتة أيضا ، في إحدى المرات كلفت مجموعة من الموظفين بإعادة ترتيب الكراسات من جديد وتنظيمها ، فمضى عليهم أكثر من شهر لم ينجزوا سوى نصف تلك الكمية ، وإذا بهؤلاء الشباب يحاولون القضاء عليها في ليلة واحدة يا للعجب ! ! ولكن ما أصعب البناء وأسهل الهدم .

    وصلت مجموعة جديدة من أعضاء اللجان الثورية ، وشاركت في العمل ، لا أحد منهم سال أو ناقش الأمر أو تردد ، ويعلم الله أن بعضهم غير مؤمن بما يفعل ولكنه منساق وراء التيار ، ألمس ذلك في نفوسهم من خلال نظراتهم الموجه إلي وبعض هؤلاء كبار في السن يبلغ الخمسين من العمر ، ولكني أعلم بأنهم لا حول لهم ولا قوة ، فهم إما موافقون وإما منافقون ، وفي الحالتين شر مستطير ، وصلت الساعة الثالثة ليلا ، وقد بلغ مني الإعياء كل مبلغ ولم استطع حتى الوقوف ، استأذنت من رأس المجموعة على الرابطي في الصعود إلى مكتبي لأستريح ، فتركني وشأني لأنه اطمأن لي ، صعدت الأدراج بصعوبة ، وفتحت مكتبي ثم جلست على المقعد متهالك القوى ، منهار الأعصاب ، ورضعت رأسي على المنضدة في محاولة للنوم ، ولكن أنى يغمض لي جفن في تلك الليلة ؟ .

[ ماذا كان شعوري في تلك الليلة ؟ ]

      استعرضت مسيرة الأربع سنوات التي قضيتها في السجل العقاري والإصلاحات التي قمت بها ، والدفاع الذي قدمته عن هذه الأوراق التي تحكي تاريخ طرابلس على الأقل ، إضافة إلى ما تضمنته من حقوق لله وللعباد الضعفاء والمساكين وغيرهم ، ومحاولاتي إقامة مدرسة في هذه الإدارة تبنى على أساس علمي متطور ، تظهر ما للتسجيل العقاري والتوثيق من فوائد ، فهو لم يدرس كمادة في كلية الحقوق ، وبالتالي قد تكون هذه الإدارة وسيلة لبقية الإدارات للتدريب فيها ، هذا ما كنت أطمح إليه ، تطوير الإدارة ، خلق اطر فيها ، إدخال هذه المادة في كلية الحقوق حتى يكون الخريجون على دراية بالتشريعات العقارية وإدراجها كمادة في معهد القضاء ، كما تسير عليه كل الدول العربية وغيرها إلا في بلادي فهذا الأمر ليس له وزن ولا اعتبار .

     ويعلم الله أنني أهدف من ذلك خدمة بلادي وأداء رسالتي العلمية فقط ، هذه الأحلام ضاعت أدراج الرياح ، ها هم يدوسون على السجلات بأرجلهم ويضمونها بأيديهم ، وسيضرمون النار فيها بنفوسهم الحاقدة على كل ما هو أصيل ، وعلى كل ما يمت إلى الماضي بصلة ،سواء في التاريخ أو العادات أو التقاليد أو في الفنون والآداب ، ولو وجدوا سبيلا إلى إدخالنا في بطون أمهاتنا وإخراجنا من جديد لفعلوا ذلك ، ولكنهم لن يستطيعوا ، فهذا الشعب مليء بالإيمان ، والذي يحدث ما هو إلا حلقة من حلقات التاريخ سوف تذكر بكل ما لها وما عليها ، وكم قاسى الشعب في عهد إيطاليا وتركيا وغيرها ، ولكنه باق وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

      استمر أعضاء اللجان الثورية في نقل الملفات من المخزن وقد قارب على الانتهاء ، واقترب موعد آذان الفجر ، فنزلت من مكتبي ووجدتهم قد صعدوا إلى الدور الثاني يبحثون عن الكراسات والملفات تمهيدا لحرقها ، وفي هذا الدور توجد السجلات العقارية ، حاولت إقناعهم بالحفاظ عليها لعدم الفائدة منها ، ولكني كنت أخدعهم لأن الحقيقة أن السجلات العقارية هي الأساس في نظام السجل العيني فإذا ضاع ملف أو حرق يمكن من خلال هذه السجلات تكوين ملف جديد ، هذه الملفات أسست منذ سنة 1913 م ، وهي متينة وضخمة وبعضها مربوط بمسامير حديد وكانت إيطاليا الفاشية الاستعمارية تحافظ عليها ، ولقد حكى لي الموظفون السابقون أن الإيطاليين كانوا ينقلون هذه السجلات أثناء الغارات في الحرب العالمية الثانية ويقومون بإخفائها خارج مدينة طرابلس حفاظا عليها ، ويتركون ما عداها من ملفات وأوراق ، فإذا تعرضت مقار السجل العقاري للدمار من جراء قذف القنابل ، فيمكن إعادة الملفات من هذه السجلات فلا تضيع الحقوق العقارية المسجلة .

     اقتنعوا في بداية الأمر فقاموا بتركها ، وقد قارب انطلاق أذان صلاة الفجر فقاموا بفتح الباب الرئيسي للإدارة ، وتمكن ذلك المواطن الذي كان محتجزا من العودة إلى بيته ، فقمت وتوضأت وانطلقت إلى مسجد الشيخة راضية القريب من مبنى الإدارة ، أديت تحية المسجد ثم ركعتي الفجر بعد الآذان ، ثم جلست في انتظار الصلاة ، سرحت في تلك الفترة ، ثم توجهت إلى الله بالدعاء أن ينقذ تلكم الملفات من الحرق ، بالرغم من قيام أعضاء اللجان الثورية بتكديسها في الفناء ومع ذلك فإن الأمل لا يزال يحدوني في إنقاذها ، وتمنيت أن الله سيطبق السماء على الأرض في تلك الليلة ، أو ينزل كارثة تحل بهؤلاء الذين يقضون على أنفسهم ويطمسون تاريخهم ويرتكبون معصية لم يشهدها عصر من العصور. كيف تحرق هذه الملفات التي بها أملاك العباد الضعفاء واليتامى والقصر، كيف تضيع عقارات موقوفة على المسجد الحرام والقدس الشريف ، والمعاهد الدينية والأولياء والزوايا ، لابد أن الله سيدافع عن تلك الحقوق ، لأنها – أي العقارات – أوقفت في سبيله للإنفاق منها في وجوه البر المختلفة ، دعوت الله كثيرا وناجيته وأنا غير مصدق لما يحدث للسجلات رغم رؤيتي له ، ولا يزال الأمل في الله كبيرا فهو قادر على كل شيء ، تخيلت مشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ، كيف قال الله للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، ألا تحدث المعجزة هذه الليلة ؟ هذا ما كان يراودني من هواجس وأحلام وأماني بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح قطعها المنادي للصلاة بإقامتها ، اصطففنا حيث كنا تسعة أشخاص في صف واحدة وأدينا صلاة ذلك اليوم الأحد 17/11/1985 م .

    عدت إلى مبنى الإدارة بعد قضاء الصلاة ، فليس لي وسيلة للعودة إلى مسكني فوجدت العصابة قد أحضرت جرارا ضخما قام بهدم السور الخارجي ، ونقل الملفات وتكديسها في الشارع الرئيسي أمام مبنى الإدارة ، مع الاستمرار في إزالة الملفات الموجودة في الأدوار العليا ، ويقوم ذلك الجرار بإزالة الملفات كما تزال مخلفات البناء تماما أو أكوام الرمال ، ويا الله كم قام إنسان قبلي بالحفاظ عليها وكم من موظف وضع توقيعه عليها ، وكم عانى موظف من إعدادها وترتيبها وحفظها ، وتأتي لحظة بين عشية أو ضحاها ، أو بالأصح ليلة وصباحها فتصبح كومة من الرماد ، سبحان الله العظيم !! . قاموا بقفل الشارع الرئيسي ( الجمهورية ) لأن الملفات كونت جبلا من الأوراق وسط الطريق وتم توجيه مرور السيارات إلى الشوارع الفرعية ، وحضرت دورية من الشرطة وكادت تحصل معركة بين قوى الثورة وبين أفراد الشرطة ، ولكن الثوريين قاموا بطردهم فهم أقوى من رجال الأمن ، بدأت الاستعدادات لإحضار الكيروسين ، وحضرت وسائل الإعلام بآلات التصوير ، كما تم إحضار سيارتي مطافئ إحداهما على اليمين وأخرى على الشمال ، وبعض قوى الثورة يسكبون الكيروسين على الأوراق تمهيدا لإشعال النار ، وأنا أنظر أمام المبني انتظر معجزة السماء ، فالأمل لا يزال قائما في الله تعالى ، قاربت الساعة السابعة والنصف صباحا أو الثامنة إلا ربعا ، بعد سكب الكيروسين قام أحدهم بإشعال عود ثقاب ووضعه في الأوراق ، فبدأت النار التي لا تعرف قيمة ما تأكله تلتهب ، ويعلم الله أنني لو خيرت في تلك اللحظة بين حرقي وحرق الأوراق ، لاخترت النار بدلا منها ، فأنا بشر يعوض بغيره في سنين ، أما هذه الوثائق فقد استغرق إعدادها أجيالا عديدة ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم { ولو شاء الله ما فعلوه } .

     بدأت النار تلتهب والدخان يتطاير يشق طريقه إلى عنان السماء ، وهتف الجميع لهذا الحدث ، وتم تلاوة بيان النصر بهذه المناسبة ، وأنا واقف أمام الإدارة أقول لنفسي : يا ترى هل يعون ما يقومون به أم لا ؟ ، إنها انفعالات الدهماء دون شك ، إنهم في نشوة النصر حاليا ، إنهم أنجزوا مهمة ثورية لا يستهان بها وحققوا نصرا على عدوهم اللدود ، وفتحوا بلدا نشروا فيه الإسلام ، إن أكاليل الغار يجب أن تطوق أعناقهم ، ويجب أن تمنح لهم الأوسمة مقابل هذا الكفاح ولله در المتنبي حين قال: -

      ذو العقل يشقى في النعيم بعقله      وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

     هذا ما أتمثل به دائما في مثل هذه المواقف ، فأنا أشغل نفسي بهذه الأوراق والوثائق ، والمئات من حولي يهتفون لأوارها ، بدأ أطفال المدارس يتوافدون إلى مدارسهم القريبة من مبنى الإدارة ، فشاهدوا الازدحام ، فتجمعوا فهتف بهم أحد المنتصرين من قوى الثورة ، فهتفوا معه ، ولكنهم لا يعلمون لما يهتفون ، لا شك أنهم بعد أن يصيروا رجالا ، سيقولون حضرنا ذلك اليوم المشؤوم .

      وصل بعض موظفي إدارة التسجيل العقاري والتوثيق بطرابلس للالتحاق بعملهم ، فأصيبوا بالدهشة لما رأوا النار تلتهب في كراسات التصديق والسجلات العقارية ، وأصيب بعضهم بصدمة عنيفة ، بدأ يرتعش ، وتم إيواءه فيما بعد بالمستشفي وأمرت بعضهم بالرجوع إلى بيوتهم ، أبقيت فقط موظفي الشؤون الإدارية ، أخذت ألسنة النيران في الارتفاع إلى عنان السماء ، رغم محاولات رجال المطافئ السيطرة عليها برش المياه ، أمرت بقية الموظفين الذين صعدوا إلى الأدوار العليا بالنزول خوفا من تصدع المبنى من شدة الحرارة التي سادت المكان من لهيب النار . نزلت بدوري إلى الشارع وجلست على سور مهدم يقع أمام زنقة الشيخة راضية ، أراقب المنظر من بعيد ، معي بعض الموظفين أروي لهم ما حدث منذ البداية ، وأحيانا ألتزم الصمت ، نظرت إلى مبنى الإدارة من بعيد فوجئت بأشخاص يقومون بإلقاء السجلات العقارية من الدور الثالث ، وتقذف من أعلى في النار من خلال النوافذ التي فتحت جميعها ، وبدأ السجلات تسقط في النار وتحدث دويا كبيرا من شدة الثقل ( لأنها سجلات كبيرة ) يا للهول ويا للمأساة ، كنت أحسب نفسي أنقذتها من الحرق ، فإذا بالشر قد لحقها وتطاولت إليها الأيدي الآثمة ، أسرعت إلى المبنى وصعدت إلى حجرة السجل العقاري بالدور الثالث ، فإذا بالجماعة قضت عليه ، ولم يبق سوى عدد بسيط منها ، قلت في نفسي : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فما فائدة الكلام وقد كادوا القضاء عليها إضافة إلى أن الأشخاص الذين اتفقت معهم على بقائها دون حرق ليسوا هم من قام برميها ، والنار مستمرة في الاشتعال والجرار يقوم بتحريكها للقضاء على البقية الباقية من الأوراق التي لم تطلها النار.

     رجعت إلى مكتبي ، فطلب مني علي الرابطي قائد عملية الحرق ، إغلاق المكاتب التابعة للإدارة ، وتوقفها عن العمل حتى يذهبوا إليها لحرق سجلاتها وملفاتها ، فاتصلت بهم وأعلمتهم بما حدث في الإدارة ، وطلبت منهم البقاء في مكاتبهم لحين الاتصال بهم ذلك أنني طلبت أمين عدل طرابلس عدة مرات بالهاتف فلم أجده ، فأعلمت مدير مكتبه بالواقعة وطلبت منه إعلام الأمين وإفادتي بما يجب القيام به من إجراء ، طلبت من رؤساء المكاتب عدم فتحها للتعامل مع الجمهور والبقاء مع الموظفين لحين وصول تعليمات جديدة . استمر هذا الحال بنا حتى الساعة الحادية عشرة صباحا ، كنت منهوك القوى أكاد أسقط من التعب ، وأشعر بإرهاق شديد ودوار في رأسي وغليان في دمي وعروقي ، طلبت من الأخ ميلود القديري ( كان يشغل رئيس قسم الشؤون الإدارية ) نقلي في سيارته إلى بيتي ، فقام بذلك ولكنه لا يعرف طريق مسكني وأنا أقوم بإرشاده غير أنني كدت أضل طريقي ، فأدخلته في شوارع وأزقة لا تؤدي إلى مسكني ، لقد كنت ذاهلا بما حدث ، لا أدري ما أقول ، وفي النهاية وصلت إلى بيتي ، فشكرته وطلبت منه العودة إلى مقر الإدارة وترتيب الأمور لأنني لم أعد قادرا على شيء . دخلت إلى بيتي فوجدت أهلي على درجة كبيرة من الخوف والجزع ، وخاصة والدتي فهي لم تنم ، وقد سمعت بالواقعة التي تناقلها سكان مدينة طرابلس في حينها ، بعد ربع ساعة من وصولي اتصل بي أمين عدل طرابلس الدكتور ميلود المهذبي ، فأخبرته بما حدث هاتفيا باختصار ، طلب مني الحضور إلى مكتبه فاعتذرت لإرهاقي الشديد ، ودخلت حجرتي لأنام ، ولكن من أين لي بالنوم ، أغمضت جفني ولكن الشريط السينمائي يدور على شاشة تفكيري . قامت قوى الثورة بوضع حراسات على مبنى الإدارة خوفا من تسرب بعض الوثائق الباقية ، وفي صباح اليوم التالي 18/11/1985 م استدعيت من قبل أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل ( وزير العدل ) الأستاذ مفتاح كعيبة فرويت له القصة بكاملها ، بعد ذلك طلب مني أن أقترح عليه أسماء بعض المتخصصين لتشكيل لجنة لوضع تصور جديد للسجل العقاري ، عندها ثارت أعصابي ولم أعد أدري ما أقول ، أذكر أنني طلبت منه إعفائي من كل مهمة ،فأنا لم أعد أثق في شيء ، ولا أنفع لشيء ، ولا أعلم شيئا عن السجل العقاري ، قلت له : يكفيني ما حدث ، رأيت بنفسي أكبر جريمة في التاريخ ، ولا أذكر بقية العبارات التي أدت إلى زعل أمين العدل ، فقال لي : لا يجب عليك أن تتخذ هذا الموقف في هذه الظروف ، وأنا أقدر مشاعرك ومعك فيما قلت ، ولكن أي موقف الآن قد يفسر لغير صالحك ، وبالتالي قد يعود عليك بالضرر . طلبت من الأمين (الوزير) الخروج قليلا للتفكير ، ثم ذهبت على ما أتذكر إلى مكتب الأستاذ عبد السلام دقيمش المستشار القانوني بالأمانة ، لا أذكر الحديث الذي دار بيننا ، ثم عدت إلى الأمين (الوزير) ، فاقترحت عليه بعض الأسماء تلبية لطبه لدراسة وضع التسجيل العقاري وتقديم الاقتراحات الخاصة به ، وعدت إلى مبنى الإدارة الذي لا يزال محاصرا من أعضاء اللجان الثورية ، وهناك سيارة تقوم بنقل بعض العقود القديمة التي تم استلامها من محرري العقود الذين انتهت خدماتهم بالوفاة أو شطب قيدهم وسلموا ما في عهدتهم وفقا للقانون ، وعلمت فيما بعد أنهم قاموا بحرقها في سجن الجديدة على ما أعتقد ، وفي نفس هذا اليوم ذهبت قوة الثورة إلى مكتب السجل العقاري بالغزالة ، حيث قاموا بحرق الكراسات والسجلات ، ويبلغ عدد الكراسات فيه حوالي 80000 ، ثمانون ألف كراسة تصديق أي ملف عقاري . لم تسلم منهم حتى الخرائط في ذلك المكتب والذي يوجد فيه الآلاف من الوثائق والحجج القديمة ، وقال لي رئيس المكتب الأستاذ محمد الديب فيما بعد : إنهم وجدوا في مكتبي كتاب التوثيق العقاري – وهو كتابي الأول – فأخذه أحد الثوار ورمي به في النار ، يا للعجب ، يبذل أحدنا نفيس عمره من أجل العلم والبحث ، ويسعى لوضع أساس للدراسات في مجال التوثيق ، ويتعب من أجل ذلك ثم يأتي من لا يقدر المسؤولية ويرمي به في النار ، ومن يلومه في ذلك فهو لا يعلم قيمة ذلك الكتاب ، لأن التيار جرفه إلى أن ينهل من علم واحد فقط ، وهو تنفيذ ما يطلب منه دون تفكير أو تعقل ، والسير في طريق واحد تحت فكر معين وما عداه فهو باطل .

 

يتبع في الحلقة السادسةإن شاء الله
[ كتاب التوثيق العقاري في الشريعة الإسلامية ]